تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون ، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك ؛ وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم ، وعدم خوف زواله ، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال :

إذا شئت أن تحيا حياة هنية

فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا

وإلى نفى الهرم واختلال القوى ، لأنه ضرب من العذاب أيضا.

ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم ، مع تمتع بسائر اللذات ، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز ، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا الله عنه كما قال : «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه ، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال :

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة ، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام ، المشوبة بصنوف الآلام.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠))

٦١

تفسير المفردات

النزل : ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب ، والزقوم : شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة ، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية ، فتنة : أي محنة وعذابا في الآخرة ، وابتلاء في الدنيا ، أصل الجحيم : أي قعر جهنم ، طلعها : أي ثمرها ، رءوس الشياطين : أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة ، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون : وجه كأنه وجه شيطان ، كما يشبهون حسن الصورة بالملك ، والملء : حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه ، والشّوب : الخلط ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، مرجعهم : أي مصيرهم ، ألفوا : أي وجدوا ، يهرعون : أي يسرعون إسراعا شديدا.

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة ، وذكر ما يتمتعون به من مآكل ، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).

أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا ، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم ، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال ، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان ، من الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.

الإيضاح

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؟) أي أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة منى لهم خير ، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع؟.

وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم ، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم ، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين ،

٦٢

فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا : كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل ، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها ، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق.

ثم وصف هذه الشجرة فقال :

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار ، وأغصانها ترتفع إلى أركانها.

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره ، وكراهة رؤيته ، كأنه رءوس الشياطين ؛ والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى ، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي : كأن وجهه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل ، ونهج هذا النهج فقال :

أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك ، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه ، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة ، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف «ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».

ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال :

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه ، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته ، ولكن ما ذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع؟ والمضطر يركب الصعب والذلول ، ويستروح من الضرّ بما يقار به فيه.

وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته ، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال :

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش

٦٣

يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم ، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم.

ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال :

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب ، لإلى نار تتأجج ، وجحيم تتوقد ، وسعير تتوهج ، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال : «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ».

والخلاصة ـ إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهى الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات.

ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد ، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال :

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان ، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية ، وكأنهم استحثّوا على ذلك ، وأزعجوا إزعاجا.

وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه ، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية ، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه فى ذم التقليد لكفى.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

٦٤

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر ـ أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم ، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك ، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم ، فليكن لك فيهم أسوة ، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ.

الإيضاح

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة ، فعبدوا مع الله آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح.

ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين ، فقد دمرهم الله ونجّى المؤمنين ونصرهم.

وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم ، وسمع أخبارهم ، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وكيف كان عاقبة أمرهم.

وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد الله المخلصين فقال :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه ،. أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.

٦٥

قصص نوح عليه السلام

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩))(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة ـ شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم ، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه أنى مغلوب فانتصر ، فغضب الله لغضبه ، وأغرق قومه المكذبين ، ونجاه وأهله أجمعين.

الإيضاح

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق ، فلنعم المجيبون نحن ، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه.

أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى الله عنها قالت : «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعى ، وأقرب من بغى ، فنعم المدعوّ ، ونعم المعطى ، ونعم المسئول ، ونعم المولى أنت ربنا ، ونعم النصير».

٦٦

ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه :

(١) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب : الغم الشديد ، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه.

(٢) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ولم يعقب أحد ممن كان فى السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث أبو الترك ، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين ، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شىء من هذا ، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة ، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا ، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه فى السفينة ، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة ، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (٣) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.

ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به ، فلا يذكره أحد بسوء فقال :

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له : عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.

ونحو الآية قوله : «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ».

ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ».

٦٧

وإحسانه أنه جاهد أعداء الله بالدعوة إلى دينه ، وصبر طويلا على أذاهم ، إلى نحو من هذا.

ثم بين سبب إحسانه بقوله :

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه.

وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات ، وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه ، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا.

قصص إبراهيم عليه السلام

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤))

تفسير المفردات

من شيعته : أي ممن سار على دينه ومنهاجه ، سليم : أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة ، والإفك : الكذب ، سقيم :

٦٨

أي مريض ، فراغ : أي فذهب خفية إلى أصنامهم ، وأصل الروغ والروغان : الميل قال شاعرهم :

ويريك من طرف اللسان حلاوة

ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

باليمين : أي بقوة وشدة ، يزفون : أي يسرعون ؛ من زفّ النعام ، أي أسرع.

الإيضاح

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح ، وسلك طريقه ، فى اعتقاد التوحيد والبعث ، والتصلب في دين الله ، ومصابرة المكذبين ـ إبراهيم صلوات الله عليه.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا ، فلا غش لديه ولا حقد ، ولا شىء مما يشينه من العقائد الزائفة ، والصفات القبيحة.

ثم فصل ما سلف فقال :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ؟) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان : أىّ شىء تعبدون؟

وهذا منه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون ، إذ لا ينبغى لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع.

ثم بين الإنكار وفسره بقوله :

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ؟) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا ، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ ، ولا تأييد من نقل ، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأى.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أىّ شىء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة؟ أي أعلمتم أىّ شىء هو ، حتى جعلتم الأصنام شركاء له؟

٦٩

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة : نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إنى أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال ، ولا أرى فى نفسى خفة ونشاطا ، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم ، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم ، فى عبادتهم للأوثان والأصنام ، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية ، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذى بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء : ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم؟ وكانوا يضعون فى أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه.

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي أىّ شىء منعكم الإجابة عن سؤلى ، ومراده بذلك التهكم بهم ، واحتقار شأنهم.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها ، وقد قيل لهم : إنه إبراهيم ، فقالوا له : نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

٧٠

الإيضاح

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم ، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا؟

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم ، وإثم كبير.

ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها ـ عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها ، وجعلناها بردا وسلاما عليه ، وجعلنا كيدهم في نحورهم ، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم.

وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إنى مفارق لتلك الديار ، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى ، وإنه سيهدينى إلى ما فيه صلاح دينى ، وهذا المكان هو الأرض المقدسة.

وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى فى أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.

٧١

ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لى أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة ، ويؤنسوننى في الغربة ، ويكونون عوضا من قومى وعشيرتى الذين فارقتهم.

فاستجاب ربه دعاءه فقال :

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم ، لأنه لازم لتلك السن ، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر ، وحسن الصبر ، والإغضاء عن كل أمر ، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام ، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين ، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة ، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة.

وأي حلم مثل حلمه ، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال : «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما ظنك به بعد بلوغه ، وما نعت الله نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا

٧٢

مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

تفسير المفردات

فلما بلغ معه السعى أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة ، أسلما : أي استسلما وانقادا لأمر الله ، تله : أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا : أي حققت ما طلب منك ، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، بذبح : أي حيوان يذبح ، باركنا عليه : أي أفضنا عليه البركات.

المعنى الجملي

اعلم أنه بعد أن قال سبحانه : فبشرناه بغلام حليم ـ أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله : فلما بلغ معه السعى ، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن ، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه ، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم ، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين ، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات ، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات.

الإيضاح

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه ـ قال له يا بنى إنى رأيت في المنام أنى أذبحك فما رأيك؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما

٧٣

نزل من بلاء الله ، فيثبت قدمه إن جزع ، وليوطن نفسه على الذبح ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله.

ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه.

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت ، ومن مجيب طلبت ، وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت ، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به ، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر ، وعلى الله المثوبة ، وهو حسبى ونعم الوكيل.

ولما خاطبه بقوله يا بنى عنى سبيل الترحم ، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره ، وأن الواجب عليه إمضاء مارآه.

ثم أكد امتثاله للأمر بقوله :

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء ، وأحتمل هذه اللأواء ، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر ، وقد صدق فيما وعد ، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه ، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ».

ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره ، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه ، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه : و

روى عن مجاهد أنه قال لأبيه : لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى ، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على ، اربط يدى إلى رقبتى ، ثم ضع وجهى للأرض ، ففعل.

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى : أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر ، وصبرك على القضاء : وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من

٧٤

دفع البلاء بعد حلوله ، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله ، مع إظهار فضلهما ، وإحراز المثوبة من ربهما.

ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده ، بعد استبانة إخلاصه في عمله ، حين أعد العدّة ، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة ، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا ـ نجزى كل محسن على طاعته ، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل ، وبمثله جدير.

ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة ، واختبار لعباده لا يعدله اختبار ، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد ، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره ، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها ، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري ، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب ، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه.

ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب ، فاليهود يجلّونه ، والنصارى يعظمونه ، والمسلمون يبّجلونه ، والمشركون يحترمونه ، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا ، وذلك استجابة لدعوته حين قال : «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».

٧٥

ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال :

(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له : عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.

ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهى نعمة الولد فقال :

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة ، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا ، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه ، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي.

وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة ، ولا عيب عليهم في شىء منه كما قال : «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».

من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟

ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر ، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين ، ومن ثم حدث الخلاف فيها.

١ ـ فمن قائل إنه إسحاق ، ويؤيده :

(ا) ما روى عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه : أترغب

٧٦

عن أن تأكل معى وأنا والله يوسف بن يعقوب نبى الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.

(ب) ما روى عن أبى الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام ، فقال ابن مسعود : ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.

(ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلىّ وابن مسعود والعباس أنه إسحاق.

ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه ، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهى جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضى الله عنه قد استمع منه ، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها ، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها.

٢ ـ ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده.

ا ـ رواية ذلك عن ابن عباس ، فقد روى عطاء بن أبى رباح عنه أنه قال : المفدى هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.

(ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال : الذبيح إسماعيل.

(ح) أن ابن إسحاق قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : إن الذي أمر الله ذبحه من ابنيه هو إسماعيل ، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال : «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال : «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل ـ قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا.

وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل ، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان ومن

٧٧

الفضل الذي ذكره الله له لصبره لما أمر به ، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم والله أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه.

قصص موسى وهارون عليهما السلام

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

الإيضاح

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير ، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك.

ثم فصل هذه النعم فقال :

(١) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء ، واستحياء النساء ، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات ، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لو لا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم ، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته ، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.

٧٨

(٢) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة.

(٣) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلىّ الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا ، وهو التوراة كما قال : «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» وقال : «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ».

(٤) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة.

(٥) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم ، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم :

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقال الآخر : الذكر للإنسان عمر ثان.

(٦) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر ، ولا شىء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما ورد فى الحديث «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

ثم ذكر سبب هذه النعم فقال :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.

٧٩

قصص إلياس عليه السلام

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

الإيضاح

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير : هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخى موسى عليهما السلام ، فهو إسرائيلى من سبط هرون.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي أنذر قومه وحذرهم بأس الله فقال : ألا تخافون الله ، فتمتثلوا أوامره ، وتتركوا نواهيه؟

ثم ذكر سبب الخوف فقال :

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم ؛ أي أتعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه؟

ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال :

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق ، وتحريم الإشراك به ، وعقابه تعالى عليه ، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب ، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.

٨٠