تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

تفسير المفردات

ظهر عليه : غلبه وظفر به ، ورقب الشيء رعاه وحاذره لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه ، ومنه فلان لا يرقب الله فى أموره : أي لا ينظر إلى عقابه ، فيركب رأسه فى المعصية ، والإلّ : القرابة. قال ابن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الإلّ وأعراق الرّحم

والذمة والذمام : العهد الذي يلزم من ضيّعه الذمّ ، وكان خفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار ، فاسقون : أي خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء ، من قولهم : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون فى الأرض أحرارا ، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة ، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقّتت بها ، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة فى ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم ، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام الله فإنه يجار حتى يسمعه ـ قفى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو دونه.

٦١

الإيضاح

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) المراد من المشركين الناكثون للعهد ، لأن البراءة إنما هى فى شأنهم ، أي بأى حال يكون لهؤلاء المشركين عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله يستحق أن يراعى ويحافظ عليه إلى إتمام المدة بحيث لا يتعرض لهم على حسبه قتلا وأخذا ، وحالهم ما بين فى الآية التالية ـ إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهود إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم بنو كنانة وبنو ضمرة ، لأنهم ممن كان قد أقام على عهده ولم يدخل فى نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فهؤلاء تربصوا بهم ولا تقتلوهم ما استقاموا لكم على العهد ، إذ لا يجوز أن يكون نقضه من قبلكم.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الغدر ونقض العهد ، وهؤلاء المعاهدون المذكورون هنا : هم المذكورون أولا بقوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين إلخ ، وإنما أعيد ذكرهم هنا ، لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعيّة من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته ، وبيان استباحة نبذ عهد الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهده أو نقصوا منه كما فعلت قريش فى نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بنى بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم ـ عهد مشروع عند الله مرعىّ الوفاء عند رسوله ـ وحالهم المعروفة من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم فى القوّة والغلب ، لا يرقبوا الله ولا القرابة فى نقض العهد والميثاق.

٦٢

والخلاصة ـ إنه لا عهد لمن كان له عهد وغدر فيه ، وكذا من لا عهد له منهم لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يقيّدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا مؤقت.

ثم بين ما تنطوى عليه جوانحهم من الضغينة للمؤمنين فقال : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي هم يخادعونكم حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسول يرون أنه يرضيكم سواء أكان عهدا أم وعدا أم أيمانا مؤكدة ، وقلوبهم مملوءة ضغنا وحقدا «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود وحنثوا بالإيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون.

وإنما يفعلون ذلك لأن أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء ، فليس لهم مروءة رادعة ، ولا عقيدة وازعة ، ولا يتعفّفون عن الغدر وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض.

وإنما وصف الأكثر ، لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم ، وأقلهم الموفون الذين استثناهم الله تعالى وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يمدح عندهم ـ أردف ذلك بذكر السبب فى هاتين الآيتين.

٦٣

الإيضاح

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي استبدلوا بآيات الله الدالة على توحيده بالعبادة ، وعلى الوحى والرسالة وما فيها من الهداية للناس ، وعلى البعث والجزاء على الأعمال ـ ثمنا قليلا من حطام الدنيا ، وهو ما هم فيه من رخاء العيش وكثرة الأموال ، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وما يقتضيه من الوفاء وصدوا غيرهم أيضا ، وجعله قليلا لأنه زائل غير باق وما عند الله باق دائم وهو خير وأبقى ، لأن ما عندهم قليل بالنظر إلى ما عند غيرهم.

روى أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إلى ما طلب.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح عملهم الذي يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى ، والصد عن دين الله وما جاء به رسوله من البينات والهدى.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي ومن أجل هذا الكفر لا يرعون فى مؤمن يقدرون على الفتك به قرابة تقتضى الود ، ولا ذمة توجب الوفاء بالعهد ، ولا ربّا يحرّم الخيانة والغدر ، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدا ولا يستحل غدرا ولا يقطع رحما.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون للغاية القصوى من الظلم ، والعلة فى هذا رسوخهم فى الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله ، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر والاعتصام بالإيمان والتمسك بفضائل الأخلاق وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

٦٤

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين ـ أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلها فى هاتين الآيتين.

الإيضاح

(١) (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله ، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه ، فأقاموا الصلاة أي أدّوها بشروطها وأركانها ، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم فى الدين الذي أمركم به ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات ، ولا تعارف أجمل من التعارف فى المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغنى للفقير ، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها ، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي وإنا نبين حجج الله وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها ، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.

(٢) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) يقال نكث الغزل والحبل : حلّ الخيوط التي تألّف منها وأرجعها إلى أصلها ، والأيمان العهود وقد كان كل من العاقدين للعهد يضع يمينه فى يمين الآخر.

أي وإن نكث هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم ، وعابوا دينكم واستهزءوا به وصدّوا الناس عنه ، ومن ذلك الطعن فى القرآن وفى النبي

٦٥

صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم فقاتلوهم فهم أئمة الكفر وحملة لوائه المقدّمون على غيرهم بزعمهم ، فهم الأجدر بالقتل والقتال.

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي إن عهودهم لا قيمة لها. فهى مخادعة لسانية لا يقصد الوفاء بها كما قال سبحانه «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة.

(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الأيمان ونقض العهود والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه.

وفى ذلك إيماء إلى أن القتال لا يكون اتباعا لهوى النفس ، أو إرادة منافع الدنيا من السلب والنهب وإرادة الانتقام ، وهذه ميزة الإسلام ، إذ جعل الحرب ضرورة لإرادة منع الباطل وتقرير الحق.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه يقتال أئمة الكفر ـ ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم ، ولعل الله قد علم أن فى نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح

٦٦

مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم فى إيمانهم ، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك ، والله يريد أن تطهر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية ، ويمحّص المؤمنين من النفاق ومثالبه.

من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.

الإيضاح

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟) أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة :

(١) إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم ، ويكونون فيها أحرارا فى دينهم ، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بنى بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهجير ، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر ، ولما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا نصرت إن لم أنصركم» وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.

(٢) إنهم هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من وطنه أو حبسه حتى لا يبلغ رسالته ، أو قتله بأيدى عصبة من بطون قريش ليتفرق دمه فى القبائل ، فتتعذر المطالبة به ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ».

(٣) إنهم بدءوا بقتال المؤمنين فى بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه ونقيم فى بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رءوسنا القيان ، وكذا فى أحد والخندق وغيرهما.

٦٧

وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم قال :

(أَتَخْشَوْنَهُمْ؟) أي أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفا منكم وجبنا؟.

(فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره وترك مخالفة عدوه ، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله ، لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر ، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته ، فان خشى غيره بمقتضى سننه تعالى فى أسباب الضر والنفع ، فلا ترجح خشيته على خشية الله ، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره ، بل يرجّح خشيته تعالى على خشية غيره.

وهذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلو أن يكون بينهم جماعة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يكرهون القتال إذا لم توجبه الضرورة كما قال : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» أو رجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك.

وخلاصة ما سلف ـ إنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها ، لم يبق من سبب يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم ، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقا ، كيف وقد نصركم الله عليهم فى مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم وقلّتكم وكثرة عديدهم.

وفى الآية إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ولا يخشى إلا الله وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم ، وفنّد الشبه المانعة من ذلك ـ أمرهم به أمرا صريحا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم ، وهذه العدة من أخبار الغيب فى وقعه معينة ، وقد صدق الله وعده فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي قاتلوهم كما أمرتكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك يعذبهم الله بأيديكم ويمكّنكم من رقابهم قتلا ، ومن صدورهم ونحورهم طعنا ، ويخزهم بذلّ الأسر والقهر والفقر لمن لم

٦٨

يقتل منهم ، وينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذا ، فلا يعودون إلى قتالكم كما كان شأنهم بعد وقعة بدر ، ويشف صدوركم مما نالوا منكم من الأذى ولم تكونوا تستطيعون دفعه ـ وقد كان فى صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم ـ وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة وغيرها ممن كانوا فى دار الشرك عاجزين عن الهجرة. وروى عن ابن عباس أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا إلى مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم «أبشروا فإن الفرج قريب».

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي كان قد وقر فيها من غدر المشركين وظلمهم ، ومن طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه وأكملها فإنه يعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة النفس وصدق العزيمة.

وهذا الخزي والتعذيب الذي سينزله بهم لا يعمهم ، بل هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر ، فلم يبق فيهم استعداد للإيمان.

(وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي وأما غيرهم فسيتوب الله عليهم من شركهم ويوفقهم للإيمان ويتقبله منهم ، وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم فى الحال والاستقبال ، الحكيم فيما يشرع لهم من الأحكام لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله.

ومن سننه تعالى تفاوت البشر فى العقائد والأخلاق والأعمال ، وقابلية التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

٦٩

تفسير المفردات

الوليجة : ما يلج فى الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدّخيلة ، ويطلق على الواحد والكثير ، ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين.

المعنى الجملي

كان الكلام فى الآيات التي قبل هذه فى بيان حال المشركين من مواصلتهم ما بدءوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم ، وقتال المؤمنين لهم على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق فى هذا القتال ؛ والكلام الآن فى بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم فى الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فى حقوق الإسلام.

الإيضاح

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الخطاب هنا لجماعة المسلمين الذين من بينهم منافقون ومرضى القلوب يثبّطون عن القتال.

والمعنى ـ هل جاهدتم المشركين حق الجهاد ، وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدءوكم أول مرة ، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن فى دينكم وصدّ الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام ؛ وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلّفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من أعذار ملفّقة كاذبة ، وما كان من تثبيط من خرج منهم معكم عن القتال؟ أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير فتنة ولا امتحان ، ولم يتبين الخلّص من المجاهدين منكم الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين

٧٠

الذين يحادون الله تعالى بالشرك به ، ويحادون الرسول بالصدّ عن دعوته ، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله ـ من المنافقين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة ويقفونهم على سياسة الأمة كما يفعل المنافقون فى كل زمان.

ونحو الآية قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ».

وقد عبر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان ـ بعدم علمه بهم ، لأن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وجوده.

ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد كما جاء فى قوله : «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ».

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الآن وبعد ذلك وقبله ، محيط بكل شىء علما ، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحصّ ما فى القلوب ويطهّر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد ، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها.

وخلاصة المعنى ـ أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين فى جهادهم والكاذبين فاسدى السريرة ومتّخذى الوليجة ، وهو لم يعلم الصادقين فى الجهاد لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل ، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له ، إذ لا يخفى عليه شىء من أمركم ، وهو الخبير بكل ما تعملون.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

٧١

تفسير المفردات

المساجد : واحدها مسجد ، وهو مكان السجود ثم صار اسما للبيت الذي يعبد فيه الله وحده كما قال : «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» وعمارة المسجد : تطلق تارة على لزومه والإقامة فيه للعبادة ، أو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه أو نحو ذلك ، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه ، ومنها النسك المخصوص المسمى بالعمرة.

المعنى الجملي

بعد أن فتح المسلمون مكة وأدال الله للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل ، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام ، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم ، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة ، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام ، فنادى علىّ وأعوانه فى يوم النحر بمعنى : لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين ، كان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام ـ إلى أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال فى أرض الحرم ، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلا بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم فى الطواف فيه.

لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن

٧٢

منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته ، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها ، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا.

روى عن ابن عباس أنه قال : لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له على فى القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال على كرم الله وجهه : ألكم محاسن؟ فقال نعم : إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فأنزل الله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) الآية.

الإيضاح

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي ما كان من شأن المشركين ولا مما ينبغى لهم أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين ، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر قولا وعملا بعبادتهم للأصنام والاستشفاع بها والسجود لما وضعوه منها فى البيت عقب كل شوط من طوافهم ، وقولهم حينئذ : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

إذ فى عملهم هذا جمع بين الضدين ، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية بعبادته تعالى وحده ، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحّد لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه فى العبادة.

وخلاصة ذلك ـ إنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح ، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة ، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان.

٧٣

وقوله : شاهدين على أنفسهم ، أي إنهم كفروا كفرا صريحا معترفا به لا تمكن المكابرة فيه.

والمراد بالعمارة الممنوعة عن المشركين للمساجد الولاية عليها والاستقلال بالقيام بمصالحها كأن يكون الكافر ناظرا للمسجد وأوقافه ، أما استخدام الكافر فى عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة والبناء والنجارة فلا يدخل فى ذلك.

وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدا بناه كافر أو أوصى ببنائه أو ترميمه إذا لم يكن فى ذلك ضرر دينى ولا سياسى ، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان قد تداعى من بنائه ، أو بذلوا لذلك مالا لم يقبل منهم ، لأنهم يطمعون فى الاستيلاء على هذا المسجد ، فربما جعلوا ذلك ذريعة لادعاء حق لهم فيه.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله قد بطلت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وقرى الضيف وصلة الرحم ونحو ذلك مما كانوا يعملونه فى دنياهم ، فلم يبق له أثر ما فى صلاح أنفسهم ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله : «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ».

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي وهم مقيمون فى دار العذاب إقامة خلود وبقاء لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسّى أنفسهم حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم فى دار الكرامة والنعيم.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه

٧٤

الذي بيّنه فى كتابه من توحيده واختصاصه بالعبادة والتوكل عليه ، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده ويجزى كل نفس ما كسبت ، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وآدابها ، وتدبر تلاوتها وأذكارها ، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه ، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين ، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله خوفا من ضرره أو رجاء نفعه.

(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسا ومعنى بحسب سننه تعالى فى أعمال البشر وتأثيرها فى نفوسهم ، وبذا يستحقون عليها الجزاء فى جنات النعيم ، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله ، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله ، ومنع الناس من الإسلام.

هذا ، وقد ورد فى عمارة المساجد أحاديث كثيرة ، فقد روى الشيخان والترمذي عن عثمان رضى الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه الناس قال إنكم أكثرتم ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا فى الجنة».

وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص (الموضع الذي تفحص التراب عنه وتكشفه لتبيض فيه) قطاة لبيضها ـ بنى الله له بيتا فى الجنة».

وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه : أن امرأة كانت تقمّ المسجد ـ تكنسه ـ فماتت ، فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ماتت ، فقال : أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلّى عليها دلّونى على قبرها ، فأتى قبرها فصلى عليها.

وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبى سعيد قال : قال رسول الله

٧٥

صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» وتلا (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ)» الآية.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

تفسير المفردات

السقاية : الموضع الذي يسقى فيه الماء فى المواسم وغيرها ، وسقاية العباس : موضع بالمسجد الحرام يستقى فيه الناس ، وهو حجرة كبيرة فى جهة الجنوب من بئر زمزم لا تزال ماثلة إلى الآن ، وقد يراد بالسقاية الحرفة كالحجابة وهى سدانة البيت ، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش وقد أقرّهما الإسلام ، و

فى الحديث : «كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمىّ إلا سقاية الحاج وسدانة البيت».

وقد كانت قريش تسقى الحاج الزبيب المنبوذ فى الماء ، وكان يليها العباس بن عبد المطلب فى الجاهلية والإسلام.

المعنى الجملي

هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين ، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.

٧٦

روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : «كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر بل الجهاد فى سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه ، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)».

الإيضاح

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟) الخطاب فى الآية للمؤمنين الذين تنازعوا ـ أىّ الأعمال أفضل ـ والمراد ـ إنه لا ينبغى أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة فى الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله ، فإن السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال البر والخير فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد فى علو المرتبة وشرف المقدار ، وقد صرح بهذا فى قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني لا فى صفته ولا فى عمله فى حكم الله ولا فى مثوبته وجزائه عليه لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، فضلا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركى قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهديهم إلى الحق فى أعمالهم ولا إلى الحكم العدل فى أعمال غيرهم ، إذ ليس من سننه تعالى فى أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدى الظالم إلى شىء من ذلك ، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده ، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته ، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم ويحبب

٧٧

إليها الحق والعدل ، ويرغّبها فى الخير وعمل البر ابتغاء مرضاة الله لا للفخر والرياء ، وعلى الجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ثم بين سبحانه مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أي هم أعظم درجة وأعلى مقاما فى مراتب الفضل والكمال فى حكم الله وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القربات بعد الإسلام.

فالذين نالوا فضل الهجرة والجاد بنوعيه النفسي والمالى أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنا من كان ، ويدخل فى ذلك أهل السقاية والعمارة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام ، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد ، ولا ثواب للكافر عليهما فى الآخرة ، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية وإن فرض فيها حسن النية.

ثم فصل سبحانه ذلك الفوز العظيم وبينه بقوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي يبشرهم ربهم فى كتابه على لسان رسوله ، وعلى لسان ملائكته حين الموت ، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشو به سخط ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار ، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن ما عند الله من الأجر على الإيمان وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد عظيم لا يقدر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده المكرمين ، ولا سيما على الإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل

٧٨

والسكن ، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شىء إلى النفس ، وعلى بذل النفس التي هى أعز شىء على الإنسان.

فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء ما بين روحى وجسمانى ؛ فالأول الرحمة والرضوان. والرضوان هو نهاية الإحسان وهو أعلى النعيم وأكمل الجزاء كما يدل على ذلك قوله : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة؟ فيقولون ، لبّيك ربّنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون ربّنا وأىّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

والثاني : هو النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

تفسير المفردات

استحب كذا وأحبه : بمعنى ، والظلم : وضع الشيء فى غير موضعه ، والعشيرة :

٧٩

ذوو القرابة الأدنون الذين من شأنهم التعاون والتناصر ، والاقتراف : الاكتساب ، وكساد التجارة : ضد رواجها ، والتربص : الانتظار ، وأمره : عقوبته إن عاجلا أو آجلا.

المعنى الجملي

لما أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم ـ عزّ ذلك على بعض المسلمين ، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطّلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب ، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّون إيمانهم ، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم.

من أجل هذا بين الله فى هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته ـ لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله على حب الوالد والولد والأخ الزوج والعشيرة والمال والسكن.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم فى القتال وتظاهرون لأجلهم الكفار أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين وما يستعدون به لقتال المشركين إن أصرّوا على الكفر وآثروه على الإيمان ، فإن فى ذلك قوة للمشركين على قتال المؤمنين وحضدا لشوكتهم ؛ وقد حدث ذلك منذ ظهور الإسلام إلى نزول هذه السورة ، فقد كتب حاطب بن أبى بلتعة وهو من أهل بدر وقد استخفّته نعرة القرابة إلى مشركى مكة خفية يعلمهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم ، ليتخذ له بذلك

٨٠