تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة ، وفى ذلك نزلت سورة الممتحنة للنهى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن يتولهم وهم على تلك الحال فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم بوضعهم الموالاة فى غير موضعها ، فهم قد وضعوا الولاية فى موضع البراءة ، والمودّة فى محل العداوة ، وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحميّة الجاهلية.

ونحو الآية قوله فى سورة الممتحنة : «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وبعد أن بين ما وصل إليه حالهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي قل لهم وإن كنتم تفضّلون حظوظ الدنيا وشهواتها من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية فى الآخرة ، فانتظروا حتى يأتى أمر الله : أي عقوبته التي تحل بكم عاجلا أو آجلا.

وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها فى أربعة :

(١) مخالطة الأقارب وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة.

(٢) الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.

٨١

(٣) الرغبة فى تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة.

(٤) الرغبة فى الأوطان والدور التي بنيت للسكنى.

وخلاصة ذلك ـ إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة فى سبيله ، فتربصوا بما تحبون حتى يأتى الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة.

ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد والتهديد ، ومن الإيماء إلى أنه إذا وقع التعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم نبذ الثانية وإلقاؤها وراءه ظهريا.

وبتفصيل ما تقدم فى الآية نجد أنها حوت أمورا ثمانية من أفضل ما يحب.

(ا) حب الأبناء للآباء وهو غريزى فى النفوس فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه من جسمية وخلقية ، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم فى أسواقهم وفى معاهد الحج كما قال تعالى حاثا على ذكره : «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً».

(ب) حب الآباء للأبناء وهو غريزى أيضا ، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه ، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد ، ويحرم نفسه كثيرا من الطيبات إيثارا له بها فى حاضر أمره ومستقبله ، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب ، ويقوم بتربيته وتعليمه ، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة كما قال تعالى : «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا».

(ج) حب الإخوة وهو يلى فى المرتبة حب البنوة والأبوة ، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون فى الكفاح فى الحياة ، والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم ، ويوقّرون كبيرهم ، ويرحمون صغيرهم ، ويكفلون من يتركه أبوه صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم.

(د) حب الزوجة ؛ وبالزوجية يتحد بشران يتمم وجود كل منهما وجود الآخر

٨٢

وينتجان بشرا مثلهما ، ومن ثم امتن الله علينا به فقال : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً».

(ه) حب العشيرة ، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر فى مواطن القتال والنزال والذّود عن الحمى والحريم ، وهو يكون على أشده فى أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر.

(و) حب الأموال المقترفة : أي المكتسبة ، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة ، لأن عناء النفس فى جمعها يجعل لها فى قلبه منزلة لا تكون لما يجىء من المال عفوا.

(ز) حب التجارة التي يخشى كسادها فى حال الحرب ، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها فى ذلك الحين ، لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين ، وكانت أسواقها تنصب فى موسم الحج ، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة.

(ح) حب المساكن الطيبة المرضية ، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة فى مكة كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكنى لما فيها من المرافق وأسباب الراحة.

فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروها مبغوضا لدى النفوس فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته كما قال تعالى : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ».

أما حبه تعالى فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام وتسخير منافع الدنيا للناس ، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان فى آلاء الله فى خلقه وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان : «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ».

٨٣

وكذلك حب رسوله يجب أن يكون فوق هذه أيضا ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى فى أخلاقه وآدابه ، وقد أرسله الله هداية للعالمين إلى يوم الدين.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع ، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد.

وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدى إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح ، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله.

هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة فى فضل حب الله ورسوله ، منها ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعا «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار» وعنه أيضا «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» وما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال : «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر : لأنت أحبّ إلىّ من كل شىء إلا نفسى التي بين جنبىّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسى بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك التي بين جنبيك. فقال عمر : فإنه الآن ، والله لأنت أحب إلىّ من نفسى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر».

والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع.

والذكر الحق هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد وتأمل سنن الله وآياته فى الخلق وأن تذكر حين رؤية كل شىء من صنع الله ، وسماع كل صوت من مخلوقات الله ، أنه يسبح بحمده تعالى ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.

٨٤

ومن أقام فرائض الله كما أمر ، وترك معاصيه كما نهى ، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه

فى الحديث القدسي «وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحبّ إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها» رواه البخاري.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

تفسير المفردات

المواطن : واحدها موطن ، وهو مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن ؛ والمراد بالموطن هنا مشاهد الحرب ومواقعها ، وحنين : واد على ثلاثة أميال من الطائف ، وغزوته تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن ، والإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، والرّحب : السعة ، ومدبرين : أي هاربين لا تلوون على شىء ، والسكينة : الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها ، وهى ضد الانزعاج ، وقد تطلق على الرزانة والوقار.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهى والوعيد وأن الخير ولمصلحة للمؤمنين فى ترك ولاية أولى القربى من الكافرين ، وفى إيثار حب الله

٨٥

ورسوله والجهاد فى سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب ـ إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين فى المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد ، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم ، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها ، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه ، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها.

الإيضاح

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي لقد نصركم الله أيها المؤمنون فى أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم فى صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهارا لدينه.

روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون ، قاتل بنفسه فى ثمان : بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف.

وبعوثه وسراياه ست وثلاثون ، واختار جمع من العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع فى بعضها قتال ، ونصرهم فى كل قتال ، إما نصرا كاملا وهو الأكثر وإما نصرا مشوبا بشىء من التربية على ذنوب اقترفوها كما فى أحد ، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم فى أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم ، وكما فى حنين من الهزيمة فى أثناء المعركة والنصر التام فى آخرها.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ونصركم أيضا فى يوم حنين وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثنى عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط ، فقال قائل منكم : لن نغلب اليوم من قلة ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة : أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعجب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة

٨٦

مرة أخرى ، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر.

ومعنى قوله : فلم تغن عنكم شيئا إلخ ـ أن تلك الكثرة التي غرتكم لم تكن بكافية لانتصاركم ولم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة ، وضاقت عليكم الأرض على رحبها وسعتها ، فلم تجدوا وسيلة للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو فولّيتموه ظهوركم منهزمين لا تلوون على شىء.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي ثم أفرغ الله سكينة من لدنه على رسوله (بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه حين وقوع الهزيمة لهم) فما ازداد إلا ثباتا وشجاعة وإقداما ـ وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته الشهباء ـ وعلى سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم وأزال حيرتهم وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم ، وخصوصا حين سمعوا نداءه ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره ـ وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، بل وجدتم أثرها فى قلوبكم بما عاد إليها من رباطة الجأش وشدة البأس ـ وعذب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر ، وذلك هو جزاء الكافرين فى الدنيا ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه.

ونحو الآية قوله : «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي يكون فى الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته ، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب ، وهو غفور لهم يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي ، رحيم بهم يتفضل عليهم ويثيبهم بالأجر والجزاء.

٨٧

وفد هوازن وإسلامهم وغنائهم

روى البخاري عن المسور بن مخرمة «أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، (وقد سبى يومئذ ستة آلاف وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى) فقال عليه الصلاة والسلام : إن عندى من ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم ، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هؤلاء جاءونا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده شىء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه ، قالوا رضينا وسلّمنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندرى لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

تفسير المفردات

النجس : من نجس الشيء إذا كان قذرا غير نظيف والاسم النجاسة ، وقال الراغب : النجاسة : القذارة ، وهى ضربان : ضرب يدرك بالحاسة ، وضرب يدرك بالبصيرة ، وهذا ما وصف الله به المشركين فقال إنما المشركون نجس ، ويقال نجّسه ، إذا جعله نجسا ، ونجّسه : أزال نجسه ومنه تنجيس العرب ، وهو شىء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبى ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان ، والناجس والنجيس : داء خبيث لا دواء له اه.

٨٨

والعيلة : الفقر ، يقال عال الرجل يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر فهو عائل ، وأعال : كثر عياله ، وهو يعول عيالا كثيرين : أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم ، والفضل : العطاء والتفضل.

المعنى الجملي

لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حين أمّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلّغ الناس أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ثم أمر عليا أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم ، وأن الله برىء من المشركين ورسوله ـ قال ناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة لا نقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة فقال سبحانه «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ».

قال ابن عباس : كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتّجرون فيه ، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً» الآية. قال فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم ، وأسلم أهل اليمن وجاءهم الناس من كل فجّ.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع ، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ، ويدينون بالخرافات والأوهام ، ويأكلون الميتة والدم وهى أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهى أرجاس معنوية ـ من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم ، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم فى التلبية ، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.

٨٩

وبلاد الإسلام فى حق الكفار أقسام ثلاثة :

(١) الحرم ، ولا يجوز لكافر أن يدخله بحال لظاهر الآية ، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك ، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فى الحرم لا يأذن له فى دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وأبو حنيفة ـ يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.

(٢) الحجاز ، وهو ما بين عدن إلى ريف العراق فى الطول ، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا ، ويجوز للكافر دخولها بالإذن.

ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام.

روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما» وفى رواية لمسلم ، وأوصى فقال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر فى خلافته ، وأخرج مالك فى الموطأ «لا يجتمع دينان فى جزيرة العرب».

وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب ، ولكن فى التحريش بينهم».

(٣) سائر بلاد الإسلام ، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان ، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي وإن خفتم فقرا بسبب قلة جلب الأقوات ، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع فى الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف وأرباب المتاجر ـ فسوف يغنيكم الله من فضله ، وفضله كثير ، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك ، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد ، وصدق الله وعده فأسلم أهل اليمن وصاروا يجلبون لهم الطعام ، وأسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم ، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليهم من البلاد

٩٠

فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج ، ومهد الله لهم سبل الرزق من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة ، وكان نصيب مكة من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة.

وقيد هذا الغنى بمشيئته التي لا يشك مؤمن فى حصول ما تتعلق به ، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده وإن كانوا مأمورين به ، لأنه من سننه فى خلقه ، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم فهو الذي نصرهم وأغناهم وسيزيدهم نصرا وغنى.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إنه عليم بما يكون من مستقبل أمركم فى الغنى والفقر ، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهى كأمركم بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم ، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام ، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

تفسير المفردات

يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينا وعقيدة ، ودين الحق : هو الدين الذي أنزله الله على أنبيائه ، والجزية ضرب من الخراج يضرب على الأشخاص لا على الأرض ، وجمعها جزى (بالكسر) واليد : السعة والقدرة ، والصّغار والصغر : ضد الكبر ويكون فى الأمور الحسية والمعنوية ، وللمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.

٩١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحكام المشركين فى إظهار البراءة من عهودهم ، وفى إظهار البراءة منهم فى أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام ـ قفّى على ذلك بحكم قتال أهل الكتاب وبيان الغاية منه ، وفى ذلك توطئة للكلام فى غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها فى زمن العسرة والقيظ ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم وتمحيص المؤمنين ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل فيها الروم لما سيأتى بعد.

روى ابن المنذر عن ابن شهاب قال : أنزلت فى كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت فى أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.

روى ابن أبى شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال : «قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد على هذه الآية فى شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، وعلى الجملة فالقتال الواجب فى الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه الدعوة إلى الإسلام.

والناظر إلى غزواته صلى الله عليه وسلم يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة ، وكذلك كانت حروب الصحابة فى الصدر الأول ، ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة ، ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل.

٩٢

الإيضاح

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي قاتلوا أهل الكتاب ، إذ هم جمعو أربع صفات هى العلة فى عداوتهم للاسلام ، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا فى داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين فى دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وجعلهم حلفاء له ، وأجاز لهم الحكم فيها بينهم بشرعهم ، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون ، وكذلك فعل مع نصارى الروم فى حدود البلاد العربية.

وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هى أصول كل دين إلهى ، ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهى :

(١) إنهم لا يؤمنون بالله ، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد ، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، يشرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم ، وبذا أشركوهم فى الربوبية ، ومنهم من أشرك به فى الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله ، والذين قالوا : المسيح ابن الله ، أو هو الله.

(٢) إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة ، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته ، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح ، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد.

ولا يوجد فيما بين أيدى اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة فى البعث والجزاء بعد الموت ، بل فيها إشارات غير صريحة فى ذلك.

(٣) إنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، فاليهود لا يحرمون ما حرم فى شرعهم

٩٣

الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى ، ولا يلتزمون العمل بما حرّم ، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره ، واتبعوا عادات المشركين فى القتال والنفي ومفاداة الأسرى ، والنصارى استباحوا ما حرّم عليهم فى التوراة مما لم ينسخه الإنجيل ، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام ، فقد ثبت فى كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها ، وحرّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.

(٣) إنهم لا يدينون دين الحق ، إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدى وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية ، لا دين الحق الذي أو حاه الله إلى عيسى وموسى عليهما السلام.

فاليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده ، إلى أن عاقبهم الله بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبوا بقية السيف منهم وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم.

ولما أعادوهم إلى أوطانهم وكانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض ـ كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا (عزير) ثم هم بعد ذلك حرّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا ، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة ، وذلك هو دين الله الحق.

وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره ، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية.

وإلى ما تقدم فى أهل الملتين الإشارة بقوله : «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ

٩٤

وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ».

من هذا النص يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسى حظا مما ذكرهم به نبيهم ، ولم يعملوا بالبعض الآخر ، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم.

ولقب ـ أهل الكتاب ـ والذين أوتوا الكتاب ـ وإن كان عاما ـ خص به اليهود والنصارى ، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركى العرب «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ».

(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضى القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك ـ إلى أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا ، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم ، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأى العين.

فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل ، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم فى دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».

ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون ، ويسمّون حينئذ أهل الذمة ، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله.

٩٥

أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطرفان فيسمّون المعاهدين أو أهل العهد.

وأول من سن الجزية كسرى أنو شروان ، قال أبو حنيفة الدّينورى : إنه وظّف الجزية على أربع طبقات ، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان فى خدمة الملك ، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين.

وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها.

وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان :

«هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ، إن لكم الذمة وعلينا المنعة. على أن عليكم من الجزاء فى كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم ، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه فى معونته عوضا عن جزائه ، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغيّر شىء من ذلك.

شهد بذلك سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس».

وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب قال : «هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم فى سنة (أرسل لميدان القتال) وضع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك».

والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما ، وعلى الأوساط أربعة وعشرون ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعون.

٩٦

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

تفسير المفردات

عزير : هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا ، وينتهى نسبه إلى العازار بن هارون عليه السلام ، ويضاهئون : أي يشابهون ويحاكون ، وقاتلهم الله : جملة أصلها الدعاء ثم كثر استعمالها حتى قيلت على وجه التعجب فى الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء ، والإفك : صرف الشيء عن وجهه ، يقال أفك فلان أي صرف عقله عن إدراك الحقائق ، ورجل مأفوك العقل ، والأحبار واحدهم حبر (بالفتح والكسر) وهو العالم من أهل الكتاب ، والرهبان : واحدهم راهب ، وهو لغة الخائف ، وعند النصارى هو المتبتل المنقطع للعبادة ، والإرادة : القصد إلى الشيء ، وقد تطلق على ما يفضى إليه وإن لم يرده فاعله فيقال فى الرجل المسرف المبذّر : يريد أن يخرب بيته أي أن تبذيره يفضى إلى ذلك فكأنه يقصده ، لأن فعله فعل من يقصد ذلك ، ونور الله : هو دين الإسلام ، وأظهره على الشيء : جعله فوقه مستعليا عليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح ـ قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل فى هذه الآيات ، فنقل عنهم أنهم أثبتوا

٩٧

لله ابنا ، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة ، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون ، وأنهم يسعون فى إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.

الإيضاح

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) عزير كاهن يهودى وكاتب شهير سكن بابل حوالى سنة ٤٥٧ ق م أسس المجمع الكبير وجمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا من العبرانية القديمة ، وألف أسفار الأيام ، وعزرا ، ونحميا ؛ وعلى الجملة فعصره هو ربيع الدين اليهودي ، وهو جدير أن يكون ناشر الشريعة اليهودية ، فقد أحياها بعد أن نسيت ، ومن أجل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب (ابن الله).

وإسناد هذا القول إليهم جملة وإن كان قد صدر من بعضهم ـ مبنى على أن الأمة تعدّ متكافلة فى شئونها العامة ، فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير فى جملتها ، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم كما قال تعالى : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».

وما مثل ذلك إلا مثل الأوبئة التي تحدث فى الشعب بكثرة الأقذار وإهمال مراعاة القواعد الصحية ـ لا يعدى بها من تلبس بها فحسب ، بل تنتشر العدوى فى الشّعب جميعه.

روى ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس ابن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟

والمشهور عند المؤرخين حتى مؤرخى أهل الكتاب أن التوراة التي كتبها

٩٨

موسى عليه السلام ووضعها فى تابوت العهد أو بجانبه قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام ، فانه لما فتح التابوت فى عهده لم يوجد فيه غير اللوحين الذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما جاء فى سفر الملوك الأول ، وأن عزرا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ممزوجة ببقايا اللغة العبرانية التي نسى اليهود معظمها ، ويقول أهل الكتاب إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله.

وخلاصة ما سلف ـ إن جميع أهل الكتاب يدينون لعزير فى مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم ، وإن كان هذا المستند ضعيفا ، فقد جاء فى ترجمة عزرا من دائرة المعارف البريطانية : إنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فحسب ، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة : وإذا كانت هذه الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا فى شىء منها إلى كتاب آخر ، فكتّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا اه.

(وقالت النصارى المسيح ابن الله) وهذا قول للقدماء منهم كانوا يريدون به المحبوب أو المكرّم ، ثم سرت إليهم وثنية الهنود فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقة وعلى أن ابن الله بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس) إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة ، وهذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون ـ وقد خالف فى ذلك خلق كثير منهم يسمّون الموحدين أو العقليين ، ولكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدّ بنصرانيتهم ولا بدينهم.

وكلمة (ثالوث) تطلق عندهم على وجود أقانيم ثلاثة معا فى اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس ، وهذا هو تعليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية والبروتستانتية وهو المطابق لنصوص الكتاب المقدس.

٩٩

وعقيدة التثليث وألوهية المسيح مع مخالفتهما للعقل ليس لهما أصل فى كتب الأنبياء لا قطعى ولا ظنى ، وكتب العهد الجديد كذلك ليست نصا فيهما ؛ على أن هذه لا يوثق بها ، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح فى عصره ، ثم رفضت مجامعهم الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات واعتمدت أربعا منها فحسب ، وهذا مصداق قوله تعالى «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ».

(ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي هذا الذي قالوه فى عزير والمسيح قول تلوكه الألسنة فى الأفواه ، لا يؤيده برهان ولا يتجاوز حركة اللسان ، بل البرهان دالّ على عكسه لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىء عن الحاجة واتخاذ الصاحبة.

وفى معنى الآية قوله : «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً».

(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي يشابهون فيها قول الذين كفروا من قبلهم وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله.

وقد علم من تاريخ قدماء الوثنيين فى الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة والبوذيين فى الهند والصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومانيين ، فبيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة التي لم يكن أحد من العرب ولا ممن حولهم يعرفها ـ بل لم تظهر إلا فى هذا الزمان ـ معجزة من معجزاته الكثيرة التي تظهر على مر الزمان ، وتصدّقها المشاهدة والعيان.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) تعجب من شناعة قولهم ، وقد شاع استعمالها فى ذلك ، وتستعمل فى المدح أيضا فيقال : قاتله الله ما أفصحه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد لعنهم الله.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يصرفون توحيد الله وتنزيهه ، وبه تجزم

١٠٠