تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

العقول ، وبلّغه عن الله كل رسول ـ إلى قول لا يقبله عقل ، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله الذي خلق هذا الكون العظيم ودبّر أمره ، ولا ينبغى لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شئونه ولدا من جنسه ، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ».

ثم فصل قوله قبل يضاهئون قول الذين كفروا من قبل بقوله :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا ، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وإطاعتهم فيه ، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم : أي عبادّهم الذين يخضع لهم العوام أربابا كذلك.

والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين ، فاتخاذهم أربابا يقتضى بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة ، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون ، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون ، سواء قالوه تبعا لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم لثقتهم بدينهم.

وانفرد النصارى باتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه ، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك ، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين فى عرفهم ، ويتوسلون بهم ، ويتخذون لهم الصور والتماثيل فى كنائسهم ، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة.

واليهود لم يقتصروا فى دينهم على أحكام التوراة ، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم من قبل أن يدوّنوه فى المشنة والتّلمود ، ثم دونوه فكان هو الشرع العام وعليه العمل عندهم.

والنصارى غيّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية واستبدلوا بها شرائع أخرى فى العبادات والمعاملات جميعا ، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاءوا

١٠١

وحرمان من شاءوا من رحمة الله وملكوته ، والله يقول : «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ؟» وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية ، ووجوب طاعته فى كل ما يأمر به من الطاعات ، وينهى عنه من المحرمات.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدىّ بن حاتم رضى الله عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فرّ إلى الشام وكان قد تنصر فى الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول الله عليها وأعطاها فرجعت إلى أخيها ورغبته فى الإسلام وفى القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدى المدينة وكان رئيسا فى قومه طىء (وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم) فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلّوا الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عدىّ ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؛ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال :إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي اتخذوا رؤساءهم أربابا من دون الله ، والربوبية تستلزم الألوهية ، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده ، والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به من عند الله ، إلا أن يعبدوا ويطيعوا فى الدين إلها واحدا بما شرعه لهم وهو ربهم ورب كل شىء ومليكه.

ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال :

(لا إله إلا هو) أي لا إله غيره فى حكم الشرع وفى نظر العقل ، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأى والهوى جهلا بصفات الألوهية ، إذ ظنوا أن لبعض

١٠٢

المخلوقات سلطانا غيبيا وقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب للمسخرة للخلق مثل مالله إما بالذات وإما بالوساطة والشفاعة لديه.

(سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له عن شركهم فى ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه ، وفى ربوبيته بطاعة الرؤساء فى التشريع الديني بدون إذنه.

وأمره تعالى بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام جاء فى مواضع من التوراة ، منها أول الوصايا العشر التي جاءت فى سفر الخروج (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامى ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورا مما فى السماء من فوق ولا مما فى الأرض من تحت ، ولا مما فى الماء تحت الأرض ، لا تسجد لهن ، ولا تعبدهن ، لأنى أنا الرب إلهك له غيور) إلخ.

وأمره بعبادته على لسان عيسى كثير أيضا ، من ذلك ما رواه يوحنا فى إنجيله (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله وهو دين الإسلام الذي أرسل به جميع رسله ، وأفاضه على البشر بما أوحاه على موسى وعيسى وغيرهما من رسله ، وأتمه وأكمله ببعثه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالطعن فى الإسلام والصد عنه بالباطل بمثل تلك الأقوال فى عزير والمسيح ، وبما ابتدعه لهم الرؤساء من التشريع حتى صار التوحيد الذي به هو محض الشرك عندهم ، وصار المربوب ربا على تفاوت بين فرقهم فى ذلك.

وهكذا عادى أهل الكتاب الإسلام منذ البعثة المحمدية ، وقصدوا إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال ناحية ، وبالطعن وإفساد العقائد من ناحية أخرى ، وكل من الأمرين أرادوه لإطفاء نوره.

(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ببعثة محمد خاتم النبيين الذي أرسله إلى الخلق أجمعين

١٠٣

وجعل آيته الكبرى وهى القرآن علمية عقلية وكفل حفظها إلى آخر الزمان ، وبين لهم فيه ما يحتاجون إليه من عقائد يؤيدها البرهان ، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان ، فضلا عن الأصنام الأوثان ، وعبادات تتزكى بها النفس وتطهر من كل رجس ، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ويبطل ثوابها المنّ والأذى ، وآداب تطبع فى الأنفس الفضائل ، وتشريع يجمع بين الرحمة والعدل والمساواة بين جميع الناس فى الحق.

وخلاصة ما سلف ـ إنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده وركنه الركين ، وأساسه المتين توحيد الربوبية والألوهية ، فتحوّلوا عنه إلى الشرك والوثنية ، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر فيجعله بدرا كاملا يعم نوره الأرض كلها.

(وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك بعد تمامه كما كانوا يكرهونه من قبل حين بدء ظهوره ، فهم يكيدون له ويفترون عليه ويطعنون فيه ، وفيمن جاء به ويحاولون إخفاءه.

أما اليهود فكانوا فى أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله ، فهم فى ذلك كمشركى العرب سواء.

ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببثّ البدع فيه وتفريق كلمة أهله كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيّع لعلى كرم الله وجهه والغلوّ فى ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين ، ثم فى الفتنة بين علىّ ومعاوية ، ولو لا ذلك لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين ، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة فى تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ.

وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم ، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم ، ومنعهم من تعدى المشركين عليهم ، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب ، فتودد اليهود للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم ، وصار نصارى أوربة المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين

١٠٤

يقاتلون المسلمين ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد ، لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضّلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم ـ إلى أن جاءت الحروب الصليبية فغلا نصارى أوربا فى عداوة المسلمين ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر كما هو العصر كما هو مشاهد معروف.

ثم بين إتمام نوره فقال :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) أي إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق الذي لا يغيّره دين آخر ولا يبطله شىء آخر.

ثم ذكر الغاية من إرسال محمد خاتم النبيين بدين الحق فقال :

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلى هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان ، والهداية والعرفان ، والسيادة والسلطان ، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعى والسياسى.

روى أحمد عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال : «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عدى أسلم تسلم ، قلت إنى من أهل دين ، قال أنا أعلم بدينك منك ، فقلت أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم. ألست من الرّكوسية (دين بين الصابئة والنصرانية) وأنت تأكل مرباع قومك (والمرباع ما كان يأخذه رئيس القوم من الغنائم وهو من عادات الجاهلية) قلت بلى (قال فإن هذا لا يحل لك فى دينك) قال فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام؟ تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها ولكن سمعت بها. قال فوالذى نفسى بيده ليتمّن الله هذا الدين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى ابن هرمز. قلت كسرى بن هرمز؟ قال نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».

١٠٥

قال عدىّ : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسى بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك الإظهار ، وقد وصفهم بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه ، والشرك بالله.

وفى الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره جميع الأديان سيكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم وغير المشركين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

تفسير المفردات

أكل الأموال : يراد به أخذها والتصرف فيها بسائر وجوه الانتفاع ، والصد : المنع ، وسبيل الله. هى طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة ، وأساس ذلك التوحيد والتنزيه ، والكنز هنا : خزن الدنانير والدراهم فى الصناديق ، أو دفنها فى التراب مع الامتناع عن الإنفاق فيما شرعه الله من البر والخير ، ويحمى عليها : أي تضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.

١٠٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فى الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه ـ قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين فى معاملاتهم مع الناس ، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله ، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل ، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات ، وفوات تلك الشهوات.

ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة فى صناديقهم ولا ينفقونها فى سبل البر والخير ـ بالعذاب الأليم فى نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم : هذا جزاء صنيعكم فى الدنيا ، صنعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تكتوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به فى دين ولا دنيا.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إن كثيرا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حبّ المال والجاه ، فمن أجل حب الأول أكلوا أموال الناس بالباطل ، ومن أجل حب الثاني صدوا عن سبيل الله ، فإنهم لو أقروا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة دينه لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم وتزول حرمتهم ، ومن ثم كانوا يبالغون فى المنع من متابعته وصد الناس عنه.

وأكل الأموال بالباطل : أخذها بغير حق شرعى ويقع ذلك على صور مختلفة منها :

١٠٧

(١) أخذها رشوة لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل ، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية ، رسمية كانت أو غير رسمية.

(٢) أخذها بالربا وهو فاش عند اليهود ، ومنه ما يحلّه رجال الدين ، وإن كانوا يحرمونه فى الفتوى وكتب التشريع ، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين ويأكلونه معهم مستحلين له بنص توراتهم المحرفة بدلا من نهيهم عنه وهو (لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا شىء مما يقرض بربا ، للأجنبى تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرضه بربا ، لكى يباركك الرب إلهك فى كل ما تمتد إليه يدك فى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها).

وكذلك عند النصارى ، وقد وضع لهم الأساقفة أحكاما للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبى ، فأباحوا فيه بعض الربا دون بعض.

(٣) أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم ـ هدايا ونذورا ، والوقف على الدير أو الكنيسة قربة عندهم كالوقف على المسجد عندنا ، فأخذ المال وإعطاؤه لبناء المعابد مشروع فى كل دين ، لكن البدعة الوثنية أن يوضع فى المعبد قبر أو صورة أو تمثال فيه صاحبه مع الله تارة ومن دونه أخرى ، وينذر له وحده حينا ومع الله آخر ، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء جميعا ، والنفقة فيها من الباطل ، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

(٤) بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد فى الدنيا ليدعوا لهم ويشفعون عند الله فى قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم ، اعتقادا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يردّ شفاعنهم ، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفا فى الكون يقضون به الحاجات من دفع الضر عمن شاءوا وجلب الخير لمن أحبوا ، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون وقالوا إنها لا تنافى التوحيد الذي جاء به الرسل.

١٠٨

(٥) أخذها جعلا على مغفرة الذنوب ، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف ، فيأتى الرجل أو المرأة لدى القسيس أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب ، فيخلو به أو بها فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له ، وهم يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله.

وهذا الجعل يتفاوت ثروة المشترين من الملوك والأمراء وكبار الأغنياء فمن دونهم ، ويعطون بالمغفرة صكوكا يحملونها ليلقوا بها الله تعالى.

وتلك الطقوس خاصة بالأرثوذكس والكاثوليك ، وكانت هذه من الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح (البر وتستانت) إذ ترتب على هذه العقيدة فساد كبير فى استباحة الفواحش والمعاصي ، وقد كان الاعتراف أولا بلا ثمن ، ولكن رجال الدين جعلوه وسيلة لسلب الأموال والغنى بغير وجه صحيح.

(٦) أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام وتحريم الحلال إرضاء لشهوات الملوك وكبار الأغنياء ، أو الانتقام من أعدائهم ، أو بظلم رعاياهم ، فهم يعملون ضروبا من الحيل والتأويلات يصورون بها الوقائع بغير صورها ومن ثم خاطب الله أحبار اليهود خطاب احتجاج وتوبيخ بقوله : «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ».

(٧) أخذها من أموال مخالفيهم فى الجنس أو الدين خيانة وسرقة ونحو ذلك كما قال تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

١٠٩

وفى سرد ما خالف اليهود فيه الحق وادعوا أنه مشروع لهم يقول البوصيرى :

وبأن أموال الطوائف حللّت

لهم ربا وخيانة وغلوّا

وصدهم عن سبيل الله هو منعهم الناس عن معرفة الله معرفة صحيحة ، وعبادته على الوجه الذي يرضيه ، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين كما علمت مما سلف ، فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله ، بل بما شرعه البشر ، واليهود قد كفروا بالمسيح وهو المصلح الأكبر فى شريعتهم ، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين ، وجلّ عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن فى عهد المسيح.

ومن أنكى طرقهم فى الصد الطعن فى النبي الأعظم والكتاب الكريم ، وإفسادهم عقائد النشء فى المدارس التي يتعلمون فيها ، ولا يخفى ما لذلك من سوء الأثر فى الدين والأخلاق والاجتماع.

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وكل من يكنز الذهب والفضة ، ولا يخرج منهما الحقوق الواجبة ، سواء أكان من الأحبار والرهبان أم كان من المسلمين ، ويؤيد هذا أن يزيد بن وهب قال : مررت بأبى ذر بالرّبذة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد ، فقال : كنت بالشام فقرأت : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال معاوية هذه الآية نزلت فى أهل الكتاب ، فقلت إنها فينا وفيهم ، فصار ذلك سببا للوحشة بينى وبينه ، فكتب إلىّ عثمان أن أقبل إلىّ ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عنى كأنهم لم يرونى من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لى تنحّ قريبا ، فقلت إنى والله لن أدع ما كنت أقول.

ومعنى قوله : ولا ينفقونها فى سبيل الله أي ولا يؤدون ركاتها ، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا. وأخرج ابن عدى والخطيب عن جابر رضى

١١٠

الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أىّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز» وأخرج ابن أبى شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : «لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا ألا يبقى لولده ما لا بعده ، فقال عمر : أنا أفرّج عنكم فانطلق وتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبىّ الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم ، فكبّر عمر رضى الله عنه ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته».

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم فى ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة فى نار جهنم ، أي بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.

وفى الآية إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها ، والله قادر على إعادتها ، وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها ولا صفتها ، فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.

روى مسلم عن أبى هريرة مرفوعا «ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره» وروى عنه «من آتاه الله ما لا فلم يؤدّ زكاته مثل له شجاع (ذكر الحيات) أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (العظمان الناتئان تحت الأذنين) يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)».

(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وخصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد ، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة ، ويستقبلون

١١١

الفقراء ، ووجوههم منقبضة من العبوس ، لينفروا ويحجموا عن السؤال ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات ، فلا يكون لهم فى جهنم استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على الوجوه كما قال : «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ».

(هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم : هذا ما كنزتم لمنفعة أنفسكم فكان سبب مضرتها وتعذيبها ، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفردوا بالتمتع به.

(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة فى سبيل الله.

وخلاصة هذا ـ إن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفسكم لا يشارككم فيها أحد ، قد كان لكم ضرا وعليكم ضدا ، فقد صار فى الدنيا لغيركم ، وعذابه فى الآخرة لأحقابكم.

وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه فى المسلمين عامة حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم ـ بخل أغنيائهم ، إذ لو وجهوا همهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل لتعليم النشء والعلوم الدينية والدنيوية من فنون الحرب وصنع الأسلحة لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالا يحفظون الدين والملك ويعيدون إليها مجدها الزائل ، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام ويدخلونهم فيه أفواجا أفواجا.

١١٢

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

تفسير المفردات

الشهور : واحدها شهر ، وهو اسم للهلال سميت به الأيام ، والكتاب : هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» والحرم : واحدها حرام ، من الحرمة بمعنى التعظيم ، والدين : الشرع ، والقيم : أي الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه ، وكافة : أي جميعا ، والنسيء من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة : إذا أخره ، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه : أي أخر عن موضعه.

المعنى الجملي

هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام فى أحوال المشركين ، وقد كان الكلام فى قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ـ من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله ، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.

الإيضاح

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن.

١١٣

والمراد بقوله : يوم خلق السموات والأرض ، الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته فى جملته وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما.

وقوله : فى كتاب الله ، أي فى نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه ، أو فى حكمه التشريعي كحرمة الأشهر الحرم ، وكون الحج أشهرا معلومات ، وكون ما يتعلق بالشهور من الفرائض والسنن : كالحج والصيام وعدة المطلقات والرضاع ، فالمعتبر فيه الأشهر القمرية ، ومن حكمة ذلك أنه يجعل الصيام والحج يدور فى جميع أجزاء السنة ، ومنها ما يشقّ فيه أداؤهما ، ومنها ما يسهل فيه ذلك.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي منها أربعة فرض الله احترامها وحرّم فيها القتال على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولى والعملي وإن كانت قد أخلت بذلك أحيانا اتباعا لأهوائها ، وهذه الأشهر منها ثلاثة متواليات ، وهى ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب.

روى أحمد عن أبى بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فى حجة الوداع بمنى فى أوسط أيام التشريق قال : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، ثم قال : ألا أىّ يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال أليس يوم النحر ، قلنا بلى. ثم قال : أىّ شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال : أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى ، ثم قال : أىّ بلد هذا ، قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليست البلدة؟ قلنا بلى ؛ قال فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ؛ ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ؛ ألا هل بلّغت؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».

١١٤

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ما ذكر من عدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها ـ هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء.

وقد يكون المعنى ـ ذلك هو الشرع الصحيح الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل فى الحج وغيره ، وما يتعلق بالأشهر من الأحكام ، وقد تمسكت العرب به وراثة منهما حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له بسوء على شدتهم فى أخذ الثأر وضراوتهم بسفك الدماء.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي فلا تظلموا فى الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظّمها وعظم حرمتها.

وقد خصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضى ترك المحرمات فيها تنشيطا للنفوس على زيادة العناية بما يزكّيها ويطهرها ، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه ، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة فى أدائها كالصلوات الخمس ، وخصّ يوم الجمعة بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرا وموعظة حسنة تقوّى فى المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى ، وخص رمضان بوجوب صيامه فى كل سنة ، وخص أياما معدودات من ذى الحجة بأداء مناسك الحج ، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادا للسفر لأداء النسك ، وحرم مكة وما حولها فى جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدّى فى كل وقت ، وحرم رجب فى وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وكونوا يدا واحدة على دفع عدوانهم وكفّ أذاهم كما يقاتلونكم كذلك ، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال كما هو دأبهم فى قتال قويّهم لضعيفهم ، فأنتم حينئذ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هى العليا ، وكلمة الشيطان هى السفلى ، والله عزيز حكيم.

١١٥

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم ، فمن يتق الظلم والعدوان فى الأرض وأسباب الفشل والخذلان فى القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء ومخالفة سنن الله فى الاجتماع ـ يكن الله معه ، ومن كان الله معه فلا يغلبه أحد.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) المراد بالنسيء تأخير حرمة شهر إلى آخر.

بيان هذا أن العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال فى الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه ، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا فى المناسك وفى تحريم الأشهر ولا سيما المحرم ، إذ كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارة ثلاثة أشهر متواليات ، فأحلوا شهر المحرم وأنسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت ، وفى ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم.

وقد كان من عادتهم فى ذلك أن يقوم رجل من كنانة فى أيام منى حيث يجتمع الحجيج فيقول : أنا الذي لا يردّ لى قضاء ، فيقولون صدقت ، فأخّر عنا حرمة المحرم واجعلها فى صفر ، فيحل لهم المحرم ، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل ، فتتغير أسماء الشهور كلها.

وبذلك يعلم أن النسيء تشريع دينى ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم اتباعا للهوى وسوء التأويل ، ومن ثم سماه الله زيادة فى الكفر ، أي إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على شركهم بالله وكفرهم به ، إذ حق التشريع له وحده ، فمنازعته فى ذلك شرك فى ربوبيته ، وهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم ، إذ واطئوا عدة ما حرم الله من الشهور فى ملته ولم يزيدوا ولم ينقصوا وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد فى ذلك العدد والتخصيص لا مجرد العدد ، وإذ لم يفعلوا ذلك فقد استحلوا ما حرم الله.

١١٦

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة ، إذ اكتفوا بالعدد ولم ينقصوا منه شيئا ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الحكمة فى أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس فى دينهم ودنياهم أفرادا وجماعات ، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ».

وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان فيوقعهم فى الشقاء والخسران.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

تفسير المفردات

النفر والنفور : الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط ، يقال نفرت الدابة والغزال نفورا ، ونفر الحجيج من عرفات نفرا ، واستنفر الملك العسكر إلى القتال

١١٧

وأعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا ، والتثاقل : التباطؤ ، وهو من الثقل المقتضى للبطء ، والمتاع : ما يتمتع به من لذات الدنيا ، والغار : النقب العظيم فى الجبل والمراد به هنا غار جبل ثور. والصاحب : هو أبو بكر رضى الله عنه ، والسكينة : سكون النفس واطمئنانها وهو ضد الانزعاج والاضطراب ، وكلمة الله : هى التوحيد ، وكلمة الذين كفروا : هى الشرك والكفر.

المعنى الجملي

الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام فى غزوة تبوك وما لا بسا من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق ، إلا آيتين جاءتا فى آخرها وإلا ما جاء فى أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن فى أسلوبه الذي اختص به.

ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان فى حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين فى العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها ، والكلام هنا فى غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى ، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.

وتبوك موضع فى منتصف الطريق بين المدينة ودمشق ، فهى تبعد عن الأولى ٦١٠ ك وعن الثانية ٦٩٢ ك وكان السبب فى هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة ـ من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقاء بإمرة قائد عظيم منهم يدعى قباذ وعدد جنده أربعون ألفا ، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.

وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة ، فقال : يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يضر

١١٨

عثمان ما عمل بعدها» ثم خرج لمقابلتهم ، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام ، وكان ذلك فى رجب سنة تسع.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)؟ الخطاب للمؤمنين فى جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من منافقيهم وضعفائهم ـ أي يا أيها الذين آمنوا ما الذي عرض لكم مما يخل بالإيمان أو بكماله من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم ، وإخلادكم إلى الراحة واللذة ، حين قال لكم الرسول انفروا فى سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو سبيل سعادتكم؟.

فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال فى سبيل الله كما قال : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

وكان من أسباب تثاقلهم أمور :

(ا) إن الزمن كان وقت حر شديد.

(ب) إنهم كانوا قريبى عهد بالرجوع من غزوتى الطائف وحنين.

(ح) إنهم كانوا فى عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.

(د) إن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه ، وآن وقت تلطف الحر ، لأن رجبا وافق أكتوبر فى تلك السنة.

روى ابن جرير عن مجاهد قال : أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين وبعد الطائف ، أمروا بالنفير فى الصيف حين اخترفت النخل (اجتنى ثمرها) وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فقالوا منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره فى ذلك كله.

١١٩

وكان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يورّى بغيرها لما تقتضيه المصلحة من الكتمان إلا فى هذه الغزوة فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر.

وكانت حكمة الله فى إخراجهم ـ وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا ـ تمحيص المؤمنين وخزى المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرّون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين.

(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية؟ ومن يفعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي فما هذا الذي تتمتعون به فى الدنيا مشوبا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما فى الآخرة من النعيم المقيم ، والرضوان من المولى إلا شىء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلا منه.

روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «والله ما فى الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم ثم يرفعها ، فلينظر بم يرجع»؟ أي إن نعيم الدنيا فى قلته وقلة زمنه إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله.

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن لم تخرجوا إلى ما دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج إليه ـ يعذبكم عذابا أليما فى الدنيا يهلككم به كقحط وغلبة عدو ، ويستبدل بكم قوما غيركم يطيعونه ويطيعون رسله ، لأنه قد وعد بنصره ، وإظهار دينه على الدين كله (ولن يخلف الله وعده).

وقد جرت سنته بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها ولا تحمى ذمارها ، لابقاء لها ، وتكون طعاما للآكلين ، وغذاء شهيا للمستعمرين.

١٢٠