تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

وولاية الكافرين بعضهم لبعض ، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

المعنى الجملي

قسم الله المؤمنين اربعة أقسام ، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :

(١) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر ـ إلى صلح الحديبية.

(٢) الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عند هجرتهم إليهم.

(٣) المؤمنون الذين لم يهاجروا.

(٤) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

٤١

الإيضاح

(١) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله :

أي بذلوا الجهد بقدر الوسع ، واقتحموا المشاق.

أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان :

(ا) ما ينفق فى التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ونصر دينه وحماية رسوله.

(ب) ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه فى أوطانهم عند خروجهم منها.

وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان :

(ا) قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم.

(ب) ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد ، وما يصحب ذلك من سغب وتعب ونحو ذلك.

(٢) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف ، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين ، شاركهم أهلها فى أموالهم وآثروهم على أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادوا من عاداهم ، ومن جراء هذا جعل الله حكمهم حكم المهاجرين فى قوله :

(أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر فى القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة ، ويجب عليهم كفاية المحتاج ، وإغاثة المضطر منهم.

(٣) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) الولاية بفتح الواو وكسرها ، وقيل هى بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين ، وبالكسر فى الإمارة وتولى الأمور العامة ، لأنها من قبيل الصناعات والحرف ،

٤٢

أي إن المؤمنين المقيمين فى أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم ، ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شىء من ولاية المؤمنين الذين فى دار الإسلام ، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم.

أما من أسره الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار ، ويجب على المسلمين السعى فى فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة ، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا.

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم ، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم ، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فعليكم أن تقفوا عند حدوده ، وأن تراقبوه وتتذكرو اطلاعه على أعمالكم ، وتتوخّوا فيها الحق والعدل ؛ وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.

وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية ، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر.

وإن أعظم دول المدنية فى العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة ، ولا سيما عهودها للضعفاء ، وتتخذها خداعا مع الأقوياء ، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل فى التفسير إذا رأت فى ذلك مصلحتها ، حتى قال رئيس الدولة الألمانية : ما المعاهدات إلا قصاصات ورق ، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة : المعاهدات حجة القوى على الضعيف ، وأبرع الساسة فى التفصّى منها بالتأويل هم الإنكليز.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى النصرة والتعاون على قتال المشركين ،

٤٣

فهم فى جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين. وإن كانوا شيعا يعادى بعضهم بعضا ، ولم يكن فى الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود ، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض ، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم ، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضى عهدهم وينبذوه على سواء ـ يقع من الفتنة والفساد فى الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضى إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم فى دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.

ثم فضل الله المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم.

ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات ، ورزق كريم فى دار الجزاء ، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية ، وعملوا ما يقربهم من ربهم فى دار النعيم.

(٤) (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم ـ فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء.

وفى جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله

٤٤

تعالى «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى» وقوله : «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

ولا يخفى ما فى الآية من ترغيب فى الإيمان والهجرة.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أولو الأرحام : هم أصحاب القرابات ، والأرحام واحدها رحم (بزنة قفل وكتف) وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد ، سمى به الأقارب لأنهم من رحم واحد ، أي وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر ، وبالتوارث فى دار الهجرة فى ذلك العهد وفى كل عهد ، وقوله : فى كتاب الله ، أي فى حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذى القربى.

والخلاصة ـ إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه فى جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها ، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى : «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شىء فلأهلك ، فإن فضل شىء عن أهلك فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا» ، أي فللمستحق من الأجانب.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام فى الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع

٤٥

والأحكام ـ عن علم واسع محيط بكل شىء من مصالحكم الدينية والدنيوية ، ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ».

زادنا الله علما بفقه كتابه ، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه ، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، إنه هو السميع المجيب.

موضوعات السور المكية والمدنية

تقدم أن قلنا فى آخر سورة البقرة : إن أمهات المسائل التي ذكرت فى السور المكية هى : أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله والتصديق بالوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وقصص الرسل مع أقوامهم ، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة ، وجاء فى أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم.

وأمهات ما جاء فى السور المدنية ـ قواعد التشريع التفصيلية ، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم ، فكثر فى سورة البقرة محاجة اليهود ، وكثر فى سورة آل عمران محاجة النصارى ، وكثر فى سورة المائدة محاجة الفريقين ، وكثر فى سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين ، وكثر فى سورة التوبة فضائح المنافقين.

أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام

(١) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله : «وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» وقوله : «وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ».

٤٦

(٢) كفاية. الله تعالى رسوله مكر مشركى قريش فى مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه من بلده أو قتله كما قال سبحانه : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (٣) امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم كما قال : «وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ».

(٤) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال : «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (٥) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».

أما المجادلة والمراجعة فى المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة ، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم فى مواطن كثيرة.

(٦) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله ، أي يكل إليه أموره وحده ، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله ، فكل المخلوقات سواء فى الخضوع لسننه ، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شىء من سببه خضوعا لسننه فى نظام خلقه ، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها ، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال : «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وبين فائدة ذلك بقوله : «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

(٧) إن الظلم فى الأمم يقتضى عقابها فى الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال ، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».

٤٧

(٨) إن الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد ، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدى الدين وحسن التربية والتعليم كما قال : «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

(٩) إن تقوى الله فى الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً».

(١٠) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها فى الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعى لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب «ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».

(١١) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها ، وذلك يشمل السلاح ، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى ، ومرابطة الفرسان فى ثغور البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ».

(١٢) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ».

(١٣) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق فى الحرب والسلم ، وتحريم الخيانة سرا وجهرا : «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ».

(١٤) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم

٤٨

تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».

(١٥) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

(١٦) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة ، «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» وقد جرت على ذلك الدول فى العصر الحديث ، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فى غزوة بدر ، وفرضت عليه فى غزوة أحد «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».

(١٧) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال فى حال الضعف ، وجواز ذلك حين الإثخان فى الأرض بالقوة والعزة والسيادة ، مع ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء.

٤٩

سورة التوبة ـ سورة براءة

عدد آيها ثلاثون ومائة ، وهى مدنية ، ولها أسماء كثيرة : منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما فى قلوبهم من الكفر وسوء النيات ، والمدمدمة والمخزية.

وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك ، وهى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة ، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.

وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على المشركين فى الموسم.

روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة.

ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها ـ أنها كالمتممة لها فى معظم ما فى أصول الدين وفروعه ، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال والاستعداد له ، وأسباب النصر فيه ، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك ، وأحكام الولاية فى الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، والكافرين بعضهم مع بعض ، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب ، فما بدىء به فى الأولى أتم فى الثانية ـ وهاك أمثله على ذلك :

(١) تفصيل الكلام فى قتال المشركين وأهل الكتاب.

(٢) ذكر فى الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام ، وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء فى الثانية «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ» إلى آخر الآيات (٣) ذكرت العهود فى سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.

٥٠

(٤) ذكر فى سورة الأنفال الترغيب فى إنفاق المال فى سبيل الله ، وجاء ذلك بأبلغ وجه فى براءة.

(٥) جاء فى الأولى ذكر المنافقين والذين فى قلوبهم مرض ـ وفصل ذلك فى الثانية أتمّ تفصيل.

[تنبيه] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة فى أولها ، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور ، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة.

وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

تفسير المفردات

البراءة : من برىء من الدّين إذا أسقط عنه ، ومن الذنب ونحوه : إذا تركه وتباعد عنه ، والمعاهدة : عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها ، وكان كل فريق يضع يمينه فى يمين الآخر ويوثقونها بالأيمان ، ومن جراء ذلك سميت أيمانا فى قوله تعالى :

٥١

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم ، والسياحة فى الأرض : الانتقال والتجوال فيها ، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال ، وقوله : غير معجزى الله ، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن والخزي : الذل والفضيحة بما فيه عار ، والأذان : الإعلام بما ينبغى أن يعلم ، ويوم الحج الأكبر : هو يوم النحر الذي تنتهى فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم ، ثم لم ينقصوكم شيئا ، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم ، ولم يظاهروا : أي لم يعاونوا.

المعنى الجملي

بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة ، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه ، ولم يكن أحد يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب ، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى ، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا فى دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله ، ورجحوا آخر الأمر قتله ، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها ، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله ، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم ، وكانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف فى ذلك العصر ، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السّلم والتعاون بينهم ، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين فى الحديبية على السّلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة ، لاعن ضعف وقله ، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة فى عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر فى عهد قريش ، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح

٥٢

ناقضين العهد ، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة ، وبه خضدت شوكة الشرك وذل أهله ، ولكنهم مازالوا يحاربون حيث قدروا ، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم فى حالى القوة والضعف ، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولا سيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.

من جرّاء هذا جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها ، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ».

الإيضاح

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة آتية من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، كما يقال : هذا كتاب من فلان إلى فلان. نسبه إلى الله ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه الله وأمر رسوله يتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم ، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه ، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات ، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها.

قال البغوي : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بنقض عهودهم ، وذلك قوله عز وجل «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» اه. قال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون فى هذه الآية اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوى العهود المطلقة غير المؤقتة ، ومن

٥٣

له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت ، لقوله تعالى : «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» ولما سيأتى فى الحديث : «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته» وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه الله اه.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا خطاب من الله للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم ، أي قولوا لهم : سيروا فى الأرض وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذى الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بلّغوا فيه هذه الدعوة ، وتنتهى فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر.

والحكمة فى تحديد هذه المدة أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر فى عاقبة أمرهم ، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال ، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم ، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين ، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي واعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تفوتوه فتجدوا مهربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله ، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به ، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم فى معاداتهم وقتالهم لرسله فى الدنيا والآخرة كما جاء فى مشركى مكة ومن نحا نحوهم : «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي هذا إعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات

٥٤

شركهم وضلالهم فى وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام ، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهى فرائض الحج ، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم فى منى.

ثم أكد ما يجب أن يبلّغوه بلا تأخير بقوله :

(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي قولوا لهم : فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام ، فذلك خير لكم فى الدنيا والآخرة ، لأن فى هدايته سعادتكم فيهما.

(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال : «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم فى الآخرة.

وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل ، واستعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر ، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم ، فلا تجروهم مجرى الناكثين فى المسارعة إلى قتالهم ، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم ، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم ، كما عدت بنو بكر على خزاعة فى غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح.

وفى ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا ، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته ، وإلى أن من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه ، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً)

٥٥

ويدخل فى الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين ، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون نقض العهد وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس وفى ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل فى حدود التقوى ، وإلى أن التسوية بين الوفىّ والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.

وقد ورد فى تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها : أي التبليغ العلنى أحاديث فى الصحاح أشهرها «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر رضى الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ، ثم أردفه بعلىّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا فى أمرهم ، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها ، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة ، وهى نحو أربعين آية.

وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة ، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبى بكر ، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبى هريرة.

روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال : بعثني أبو بكر فى تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى بن أبى طالب وأمره أن يؤذن ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

٥٦

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

تفسير المفردات

انسلاخ الأشهر : انقضاؤها والخروج منها ، يقال : سلخ فلان الشهر وانسلخ منه ، قال تعالى : «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» وقال شاعرهم :

إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله

كفى قاتلى سلخى الشهور وإهلالى

والحرم : واحدها حرام ، وهى الأشهر التي حرّم الله فيها قتالهم فى الأذان والتبليغ بقوله : «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» وقوله : وخذوهم ، أي بالأسر ، والأخيذ : الأسير ، واحصروهم : أي امنعوهم من الخروج واحبسوهم ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، يقال رصدت فلانا أرصده : إذا ترقبته ، أي اقعدوا لهم على كل مرصد ، واستجاره : طلب جواره ، أي حمايته وأمانه ، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه حتى يسمّون النصير : جارا ، وأجره : أي ، أمنه ، ومأمنه : أي مسكنه الذي يأمن فيه ، وهو دار قومه ، وقوله : لا يعلمون أي ما الإسلام وما حقيقته ، فلابد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله ، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطى لهم للضرب فى الأرض.

٥٧

الإيضاح

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين ، فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها ، لأن الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه ، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية :

(١) قتلهم فى أي مكان وجدوا فيه من حلّ وحرم.

(٢) أخذهم أسارى ، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر فى سورة الأنفال بقوله : «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» لأن الإثخان وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد.

(٣) حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن ، بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات حتى يسلموا وينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه أو بدون شرط.

(٤) القعود لهم كل مرصد : أي مراقبتهم فى كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه ، ورؤية تجوالهم وتقلّبهم فى البلاد.

وهذه الآية تسمى آية السيف ، إذ جاء الأمر فيها بالقتال وقد كان مؤجّلا ومنسا إلى أن يقوى المسلمون ، وكان الواجب عليهم فى حال الضعف الصبر على الأذى.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن تابوا عن الشرك الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ودخلوا فى الإسلام بأن نطقوا بالشهادتين ، وأقاموا الصلاة المفروضة كما تقيمونها فى الأوقات الخمسة والصلاة مظهر الإيمان وأكبر أركانه ، وهى مطلوبة من الغنى والفقير والأمير والمأمور. وهى حق الله على عباده تزكّى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» وآتوا الزكاة المفروضة فى أموال الأغنياء

٥٨

للفقراء والمصالح العامة ـ فخلّوا سبيلهم واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين ، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين ، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين ، والله يغفر لهم ما سبق من الشرك وغيره من سيئاتهم ويرحمهم فيمن يرحم من عباده ، وقد جاء فى الأثر «الإسلام يجبّ ما قبله».

وفى الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضى حدا معلوما أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.

روى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعا «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله».

والخلاصة ـ إن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم فى جماعة المسلمين بالفعل ، والتزامهم شرائع الإسلام وإقامة شعائره ، إذ مقتضى الشهادة الأولى ترك عبادة غير الله ، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى ، واكتفى من أركان الإسلام بالصلاة التي تجب فى اليوم والليلة خمس مرات ، لأنها الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين ، وبالزكاة لأنها الرابطة المالية الاجتماعية ، فمن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا من طلب منكم الأمان ليعلم ما أنزل الله وأمر به من دعوة الإسلام ، فإن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا مقنعا ولم يسمعوا شيئا من القرآن ، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم ، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه ، لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك ، وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه.

والخلاصة ـ وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكى يسمع كلام الله

٥٩

ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه ، أو ليلقاك وإن لم يذكر سببا ـ فأجره وأمّنه على نفسه وأمواله لكى يسمع أو لكى يراك ، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع ، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك ، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا فى عقيدته ، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه ، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر.

والمراد بالسماع أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة ويتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول فى تبليغه عن الله ، فإنه إذا ألقى إليه السمع لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبيّة والعدوان للداعى ، فإن لم يفعل ذلك كان له شأنه وكانت له حريته ، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين فى دار الإسلام وهو على هذه الحال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إن ما ذكر من إجارة المستجير من المشركين إلى أن يسمع كلام الله من جراء أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان ، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبية واغترار بالقوة وإصرار على الجفوة. فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم ، وأعدّهم ذلك للعلم بما كانوا يجهلون ، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله ـ أجيبوا إلى ذلك لأن هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم ، والرسول صلوات الله عليه إنما أرسل مبشرا ونذيرا.

وفى الآية إيماء إلى أن التقليد فى الدين غير كاف ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، لأنه لو كان كافيا لوجب ألا يهمل الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن نقتلك ، فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق ببحثه عن الدليل والتفكير فيه أمهل وترك ، وإن ظهر أنه معرض عن الحق لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.

٦٠