تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ».

(ه) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الطاقة ، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.

ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال :

(أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي إنه تعالى يتعدهم برحمته فى الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله ، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شىء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما فى غير موضعه.

وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا ـ بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تقصيلا فقال :

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الجنات : البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها : أي تغطيه وتستره ، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها ، والمساكن الطيبة فى جنات عدن هى الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره ، والعدن : الإقامة والاستقرار ، يقال عدن فى مكان كذا إذا أقام فيه وثبت ، فجنات عدن هى جنات الإقامة والخلود كقوله : «جَنَّةُ الْخُلْدِ ـ جَنَّةُ الْمَأْوى» وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها.

روى عن أبى هريرة «إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله ، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن».

١٦١

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) رضوان الله هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح ، ففى الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني ، ورضوان الله هو أعلى النعيم الروحاني.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم الذي يجزى به المؤمنون المخلصون ، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون.

وقد ورد فى وصف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع ، وبعضها منكر ، ومن ذلك ما روى عن أبى هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما : على الخبير سقطت ، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفا طويلا ، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت فى كل منها ألوف من الحور العين ، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم : لم يثبت فى نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

تفسير المفردات

الجهاد ، والمجاهدة : استفراغ الجهد والوسع فى مدافعة العدو ، وهو ثلاثة أضرب : مجاهدة العدو الظاهر. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى ، ويشير إلى هذه

١٦٢

كلها قوله تعالى : «وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ـ وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ» وقال صلى الله عليه وسلم «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم» وقال «جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم» والجهاد باللسان : إقامة الحجة والبرهان ، والجهاد باليد : الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية ؛ والغلظة : الخشونة والشدة فى المعاملة ، وهى ضد اللين. ونقم منه الشيء : أنكره وعابه عليه.

المعنى الجملي

بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات ، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات ـ أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا فى إظهار ما ينافى الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم فى إنكارهم.

وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين ، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي ابذل أيها النبي جهدك فى مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانيك بمثل ما يبذلان من جهد فى عداوتك ، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما.

وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين ، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضى الله عنه قال : جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان : أي بالحجة والبرهان.

١٦٣

وكان كفار اليهود يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم حتى بتحريف السلام عليه بقولهم (السام عليكم) ، والسام الموت فيقول : (وعليكم) ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره ، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر ، فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم (هُوَ أُذُنٌ) فأمره الله فى هذه الآية بالغلظة على الفريقين فى جهاده التأديبى لهم ، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال :

ووضع النّدى فى موضع السيف بالعلا

مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى

وهو جهاد فيه مشقة عظيمة ، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين ، وشدته فى قتاله لأعدائه المحاربين ، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم ، وأثر عن عمر أنه قال : «أذلّوهم ولا تظلموهم».

وفى هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا فى هداية من لم يطبع الكفر على قلبه وتحط به خطايا نفاقه ، فتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم فى وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون ، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره ، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه.

وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا مأوى لهم يلجئون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها ، ولا يحيا حياة طيبة ، وبئس المصير هى «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً».

والخلاصة ـ إنهم قد اجتمع لهم عذابان : عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة ، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم.

ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار ، وهى أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يغرى به من الفعل ، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ،

١٦٤

وقد أظهره الله عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل ، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» ويخوضون فى آيات الله وفى رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي يحلفون بالله إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم ، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم ، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغى ذكرها ، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها ، وأصح ما قيل فيها ما رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموا ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله فقال له : علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا ، فتجاوز عنهم فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا» الآية.

أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة منصرفه من تبوك ـ ذاك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة فى الطريق ، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال : من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ابن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه ، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة أن يسوقها ، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب

١٦٥

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم ، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن ، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر ، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أدركه قال : «اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها» فأسرعوا حتى استووا بأعلاها ، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة «هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟» قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان ، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟» قالوا : لا والله يا رسول الله ، قال : «فإنهم مكروا ليسيروا معى حتى إذا طلعت فى العقبة طرحونى منها» قالوا : أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم؟ قال «أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا قد وضع يده فى أصحابه» فسماهم لهما وقال : «اكتماهم».

والصحيح فى عددهم ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «فى أمتى اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل فى سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة (خرّاج ودمّل كبير يظهر فى الجوف يقتل صاحبه كثيرا) سراج من النار يظهر فى أكتافهم حتى ينجم من صدورهم» أي كأنه سراج من النار.

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئا يقتضى الكراهة والهم بالانتقام ـ إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هى عندهم أحب الأشياء لديهم فى هذه الحياة ، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم الله

١٦٦

ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي».

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوى الأقوال والأفعال ، يكن ذلك المتاب خيرا لهم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فيما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه ، والصبر على بلائه ، والعمل لما فيه السعادة فى الآخرة ومعاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.

وأما فى الآخرة فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة.

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوى الخلقية والنفسية ـ يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» وقال : «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» فهم فى جزع دائم وهمّ ملازم.

وأما فى الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة.

(وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لهم فى الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم ، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره.

أما فى الدنيا فقد أغلقت فى وجوههم الأبواب ، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصرة بالمؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات ، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب فى الحجاز بالقتل والجلاء.

وأما فى الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لاولىّ ولا ظهير للكفار والمنافقين.

١٦٧

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

المعنى الجملي

هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق ، وقد كانوا يلجئون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم ، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق ـ ومثل هؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكرنّ له نعمته بالصدقة منها ، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق فى سبيل الله : كإعداد العدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يرقى بها فى مختلف شئونها.

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا ـ بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشىء ، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا الله عليه ، ولم يكن

١٦٨

ذلك التولي عارضا طارئا ، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسىّ ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق ، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون ، وإذا دعوا لا يستجيبون.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث : يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي :

أودى بنىّ وأعقبونى حسرة

بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع

أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا فى قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب فى الآخرة لأنه لا رجاء معه فى التوبة.

ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين ـ إخلاف الوعد والكذب فقال :

(بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة الله فى البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق فى القلب ويقويه ، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا فى النفس ، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.

فهؤلاء لما كان قد رسخ فى نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب ـ مكّن ذلك النفاق فى قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.

أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس فى قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) الآية : أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال : لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذى حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة ، فابتلاه الله فآتاه من فضله ، فأخلف ما وعده ، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده ، فقص الله شأنه فى القرآن اه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون ، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول ـ أن الله يعلم السر الكامن فى أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به

١٦٩

ممن هو مشارك لهم فى النفاق ، وأن الله يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

تفسير المفردات

لمزه : عابه ، والمطّوّع : أي المتطوع ، وهو من يؤدى ما يزيد على الفريضة ، والصدقات : واحدها صدقة ، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة : وهى أقصى ما يستطيعه الإنسان ، وسخر منه : استهزأ به احتقارا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه بخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله ـ أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا فى جرمهم على هذا الحد ، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم فى صدقاتهم غنيهم وفقيرهم ، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام ، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم فى الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء فى إيمانهم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى مسعود البدري قال : «لما أمرنا بالصدقة

١٧٠

كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض بالأجر) فجاء أبو عقيل (اسمه الحبحاح) بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن الله غنى عن صدقة هذا ، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) الآية».

وروى ابن جرير عن عكرمة قال : «حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فى غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقال : يا رسول الله مالى ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وتصدق يومئذ عاصم بن عدى بماثة وسق (ثلاثمائة وعشرين رطلا) من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر ، الحديث.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم فى أمر الصدقات التي هى أظهر آيات الإيمان ، ويذمونهم فى أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه الله وإنما فعلوها رئاء الناس.

فلمزهم هنا فى مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها ، واللمز هناك فى قسمتها ، وقد جاء فى بعض الروايات «أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة ، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات ، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء ، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه».

(وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم : أي الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم ، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاءوا به وعدّا له من الحماقة والجنون.

وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين فى المتطوعين ، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع ، والسخرية منهم أشد ، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.

١٧١

(سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم ، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم فى هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم بيانه فى هذه السورة بهذا اللفظ وغيره.

ثم بين سبحانه عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال :

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي إن تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر الله عليهم ولن يعفو عنهم ، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

ويراد بالسبعين فى مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين ، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله فيتوب عليهم ويغفر لهم ، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ويقول «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» رواه ابن ماجه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي من أجل جحودهم وحدانية الله وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب ، وجحودهم وحيه لرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه من اتباعه ، وجحودهم بعثه للموتى وجزاءهم على أعمالهم ـ لم يعف عن ذنوبهم ولا غما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن سنة الله قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا فى نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم ـ أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.

١٧٢

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

تفسير المفردات

الفرح : الشعور بارتياح النفس وسرورها ، والخلاف والمخالفة بمعنى ، ويستعمل خلافه بمعنى بعده ، يقال جلست خلاف فلان وخلفه : أي بعده ، ومنه : «وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً» والمخلفون من خلّف فلانا : أي تركه خلفه ، ويفقهون : أي يعقلون ، والخالف : المتخلف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين من اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم فى قسمة الصدقات وفى إعطائها ، عاد إلى الكلام فى ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال فى غزوة تبوك وظلّوا فى المدينة ، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها ، وقد نزل ذلك أثناء السفر.

الإيضاح

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم فى بيوتهم مخالفين الله ورسوله ، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما فى الخروج معه من أحر عظيم لا تذكر معه راحة القعود فى البيوت شيئا.

١٧٣

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي وقالوا لإخوانهم فى النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين : لا تنفروا فى الحر ، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم : نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام فى أوائل فصل الخريف ، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول ، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه وينضج الجلود ، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر ، وما سيحملونه فى الآخرة من وزر ، وما يلاقونه فى الدنيا من خزى وضرّ ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان ، وارتكبوا من الإثم والبهتان ، وكما يدين الفتى يدان.

ونحو الآية قوله صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا : يظهر النفاق ، وترتفع الأمانة ، وتقبض الرحمة ، ويتّهم الأمين ، ويؤتمن غير الأمين ، أناخ بكم الشّرف الجون (الشرف بضمتين جمع أشارف وهى الناقة الكبيرة السن ، والجون السود) الفتن كأمثال الليل المظلم».

ثم بين ما يجب أن يعاملوا به فى الدنيا قبل الآخرة مما يقتضى تركهم للفرح والغبطة فى دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال :

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي فإن ردك الله من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين ، فاستأذنوك ليخرجوا معك فى غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله ، فقل لهم : لن تخرجوا معى أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معى للجهاد فى سبيل الله

١٧٤

ما دمت ودمتم ، ولن تقاتلوا معى عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم للمؤمنون فى عقر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب.

ثم بين سبب النهى عن صحبتهم فقال :

(إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج ، إذ طلب إليكم أن تنفروا فلم تنفروا وعصيتم الله ورسوله ، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين ، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة الله.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ـ قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهى منع الرسول أن يصلى على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم ، وفى مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبىّ والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك ، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.

١٧٥

روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضى الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال «استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنه الآن يسأل».

ثم بين سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال :

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه.

روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول لما توفّى عبد الله بن أبىّ : دعى رسول الله للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت : أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبىّ القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا؟ أعدّد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال : «يا عمر أخّر عنى ، إنى قد خيّرت : قد قيل لى ـ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ـ فلو أعلم أنى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لى ولجراءتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله رسوله أعلم ، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره» فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.

وقد حكم كثير من العلماء كالقاضى أبى بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه :

(١) جعل الصلاة على ابن أبىّ سببا لنزول الآية ، وسياق القرآن صريح فى أنها نزلت فى سفر غزوة تبوك سنة ثمان ، وابن أبىّ مات فى السنة التي بعدها.

(٢) قول عمر للنبى صلى الله عليه وسلم : وقد نهاك ربك أن تصلى عليه ـ يدل على أن النهى عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبىّ ـ وقوله بعده ـ فصلى عليه

١٧٦

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية ـ صريح فى أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.

(٣) قوله إنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خيره فى الاستغفار لهم وعدمه ، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم ، فأوفيها للتسوية لا للتخيير.

وهناك روايات أخرى فى الصلاة على ابن أبىّ من طريق ابن عمرو من طريق جابر.

وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل لما ذكروا من الأسباب ـ لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره ، وقل أن تجد من يشير إلى شىء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية ، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته.

ثم أكد ما تقدم من النهى عن الاغترار بالأموال والأولاد ؛ لأن الأمر جدّ خطير يحتاج إلى التوكيد ؛ إذ هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب ، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا ، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال :

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة (لا) فى الآية السابقة للنهى عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته ، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما ، والنهى فى هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ

١٧٧

الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

تفسير المفردات

الطّول (بالفتح) : الغنى والثروة ، وقد يراد به الفضل والمنة ، وذرنا : أي دعنا واتركنا ، والخوالف : واحدها خالفة ومثله خالف ، وهو من لا خير فيه ولاغناء عنده ، والطبع على القلوب : الختم عليها وعدم قبولها لشىء جديد.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو ـ قفى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم فى التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال.

الإيضاح

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم ـ استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم ـ فى التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين فى بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.

١٧٨

ونحو الآية قوله : «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».

وفى هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد ، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة.

ثم بين العلة فى قبولهم هذا الذل فقال :

(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها ، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله فى الارتباط بين العقائد والأعمال ، فهم لا يفهمون ما أمروا به ، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه فى كل المهامّ الدينية لا يفارقونه ـ جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر الله فى القرآن.

(وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وأولئك المجاهدون فى سبيل الله لهم الخيرات التي هى ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة الله وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة فى الأرض ، دون المنافقين الجبناء الذين ألفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء ، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر فى الأثر فى أخلاقهم وأعمالهم.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم شرح هذا فى آيات سابقة.

١٧٩

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

تفسير المفردات

المعذّر : من عذّر فى الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له ، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر ، والمعتذر إما صادق أو كاذب ، والأعراب : هم سكان البدو ، وكذبوا الله ورسوله : أي أظهروا الإيمان بهما كذبا ، يقال : كذبته نفسه إذا حدثته بالأمانى والأوهام التي لا يبلغها ، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال منافقى الحضر فى المدينة ـ أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن.

الإيضاح

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم فى التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولى التعذير.

قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبى الله : إنا إن غزونا معك أغارت طيىء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنبأنى الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم.

واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم فى الاعتذار ، وقائل بكذبهم فيه ، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون فى اعتذارهم ، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.

١٨٠