تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

وبعد أن بين سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد ـ أردف ذلك ذكر ما يجب أن يعاملوا به فقال :

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم فى الحرب ـ فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم ، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.

وإنما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان فى هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه ، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم ، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى : «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون فى السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا فى ذلك مخادعين.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.

روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فى بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال : «أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ـ ثم قال : اللهم منزّل الكتاب ، ومجرى السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم».

وفى ذلك إيماء إلى شيئين :

(١) إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله ، وإنما هى ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».

(٢) إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم ـ أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.

٢١

ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر ، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما فى الصدور من الأحقاد ، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.

وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة ـ قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال :

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها ، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم ، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء.

والحكمة فى هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا.

وخلاصة ذلك ـ لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم فى العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها ، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.

روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء ـ من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد لله ، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها ، مسلما كان أو كافرا ، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه ، مسلما كان أو كافرا».

وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم ، ونحو الآية قوله : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ».

(إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم

٢٢

بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم فى الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم ، والآية بمعنى قوله تعالى : «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ».

وخلاصة ذلك ـ قطع أطماعهم فى الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.

وفى الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين فى الدين ، وما حرّمه من الخيانة فيها ـ لم يكن عن ضعف ولا عن عجز ، بل عن قوة وتأييد إلهى ، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم ، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب).

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

تفسير المفردات

الإعداد : تهيئة الشيء للمستقبل ، والرباط والمربط : الحبل الذي تربط به الدابة ، ورباط الخيل : حبسها واقتناؤها ، والإرهاب والترهيب : الإيقاع فى الرهبة وهى الخوف المقترن بالاضطراب ، وجنح للشىء وإليه : مال ، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى

٢٣

جانب الغرب الذي تغيب فى أفقه ، والسلم (بفتح السين وكسرها) والسلام : الصلح وضد الحرب ، والإسلام دين السلم والسلام كما قال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» وحسبك الله : أي كافيك وناصرك عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم ـ قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم ، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء ـ أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين فى معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان ، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى ، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.

الإيضاح

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.

ويكون ذلك بأمرين :

(١) إعداد المستطاع من القوة ، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان ، فالواجب على المسلمين فى هذا العصر : صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك ، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة خيبر وغيرها ، روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه

٢٤

الآية يقول : «ألا إن القوّة الرمي» قالها ثلاثا ، وذلك أن رمى العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك ، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها ، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة فى عصره صلى الله عليه وسلم.

(٢) مرابطة الفرسان فى ثغور البلاد وحدودها ، إذ هى مداخل الأعداء ، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.

والحكمة فى هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة ، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء ، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها ، ولا يزال للفرسان نصيب كبير فى الحرب فى هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية فى الدول الحربية.

(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ، إذ لا شىء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب ، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم ، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول :

وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم

إن الدّم المغبّر يحرسه الدم

وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه :

(ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.

(ج) ربما حملهم ذلك على الدخول فى الإسلام والإيمان بالله ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم ، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين

٢٥

العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر ـ ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم الله وهو علام الغيوب.

والخلاصة ـ إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء ـ يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال ، وهذا ما يسمى فى العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شىء قليلا كان أو كثيرا فى إعداد المستطاع من القوة والمرابطة فى سبيل الله ـ بالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.

(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم ، فإن القوىّ المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد ، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.

وفى هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة فى سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال ، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين فى الإنفاق فى سبيله ، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما فى الدنيا والآخرة أو فى الآخرة فحسب.

وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها ، لأنك أولى بالسلم منهم.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم ، فالله هو السميع لما يقولون ، العليم بما يفعلون ، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفى عليك.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم

٢٦

الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغرّة التي تمكنهم من أهل الحق ، أو الاستعداد للحرب ، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم.

(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك ، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك ، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك ، وبذل النفس والمال فى مناصرتك ، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.

ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران : «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً».

وقد كاد يقع شىء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم فى حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.

وفى الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال :

(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لو لا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هى أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان ـ لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية ، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة فى الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة ، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة فى الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم ، وأشرافهم وعامتهم ، على ما كان بينهم من فوارق فى الجاهلية ، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن ، لم يكن مما ينال بالمال والآمال فى المغانم ونحوها ، على أن شيئا من ذلك لم يكن فى يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار فى يده شىء كثير منه فى المدينة بنصر الله له فى قتال المشركين واليهود جميعا.

٢٧

وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول والسبق إلى الإيمان ، والأنصار لهم ميزة المال والقوة وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركى مكة وإيواؤهم ومشاركتهم لهم فى أموالهم ، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع لو لا فضل الله وعنايته ، ومن ثم قال : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم.

ونحو الآية قوله : «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».

وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها ، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان ، ومن ثم قال ابن عباس رضى الله عنهما : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شىء ، ثم قرأ : «لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» الآية (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين ، الحكيم فى أفعاله ، فينصر الحق على الباطل ، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

٢٨

تفسير المفردات

حسبك : أي كافيك ما يهمّك ، والتحريض : الحث على الشيء ، لا يفقهون :

أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة فى الدنيا والآخرة ، والضعف (بالفتح والضم) يشمل المادي والمعنوي ، وقيل هو بالضم لما يكون فى البدن ، وبالفتح لما يكون فى الرأى والعقل والنفس.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر ، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر ، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين ، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه ـ قفّى على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم فى حالى الحرب والسلم وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه ، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان فى الصلح.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن الله تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم ، وكاف لمن أيدك من المؤمنين.

ونحو الآية قوله : «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقوله : قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ».

وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولا سيما خاتم أنبيائهم.

٢٩

والمراد بالمؤمنين جماعتهم من المهاجرين والأنصار ولا سيما من شهد منهم بدرا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما ، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشرى وسنة التنازع فى الحياة والسيادة.

والخلاصة ـ حثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جرّدوا من هذه الصفات الثلاث ، وهذا عدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده.

والخلاصة ـ ليصبرنّ الواحد لعشرة ، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية ، سواء قلوا أو كثروا ، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل فى إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة ، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية ، أو الشهادة والسعادة الأخروية.

وحالهم يخالف حالكم فى كل ما تقدم ، ولا سيما منكرى البعث والجزاء منهم كمشركى العرب فى ذلك العصر ، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب

٣٠

الشهوات ، فهم أحرص على الحياة منكم لعدم اعتقادهم بسعادة أخروية ، إلى أن أهل الكتاب يظنون أنهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.

وفى الآية إيماء إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم ، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.

وهكذا كان المسلمون فى العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة ، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤددهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك.

وبعد أن بين المرتبة العليا التي ينبغى أن تكون للمؤمنين ، قفّى على ذلك ببيان مادونها من مرتبة الضعف فقال :

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

روى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لما نزلت «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة ، فجاء التخفيف فقال : «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.

وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما ، سواء طلباه أو طلبهما ، وسواء وقع ذلك وهو واقف فى الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.

والخلاصة ـ إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار فى القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين ، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون

٣١

لا يجدون ما يكفيهم من القوت ولم يكن لديهم إلا فرس واحد ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب ، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملى الاهبة والعدّة.

ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم ، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عهده ومن بعده القدوة فى ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث ابن عمير الأزدى ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا.

وقوله بإذن الله : أي بمعونته وتوفيقه ، وبمعنى الآية قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

وفى ذلك إيماء إلى أن من سنن الله فى الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم ، وفى هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضى النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله ، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن الله فى خلقه.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

٣٢

تفسير المفردات

الأسرى : واحدهم أسير ، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القدّ من الجلد ، وكان من يؤخذ من العسكر فى الحرب يشد لئلا يهرب ، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشدّ ، والإتخان فى كل شىء : قوّته وشدته ، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه ، وكذلك أثخنته الجراح ، والثخانة الغلظ ، فكل شىء غليظ فهو ثخين ، والعرض : ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث ، ومسكم : أي أصابكم ، وفيما أخذتم : أي لأجل ما أخذتم من الفداء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغى أن يكون عليه المؤمنون فى حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال ، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها ـ قفى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع فى وقعة بدر وكما يقع فى كل زمان.

روى ابن أبى شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال : «لما كان يوم بدر جىء بالأسارى ، فقال أبو بكر رضى الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنت فى واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا ، فقال العباس رضى الله عنه وهو يسمع ما يقول : أقطعت رحمك؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا ، فقال أناس : يأخذ بقول أبى بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله ليلين قلوب زجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ؛ مثلك

٣٣

يا أبا بكر مثل إبراهيم قال «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال : «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أنتم عالة فلا يفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضرب عنق ـ فقال عبد الله رضى الله عنه يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنى سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتنى فى يوم أخوف من أن تقع علىّ الحجارة منى فى ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) إلى آخر الآيتين».

وروى أحمد من حديث ابن عباس قال : «لما أسروا الأسارى (يعنى يوم بدر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر : ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكننى أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ؛ فتمكن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه ، وتمكننى من فلان ـ نسيب لعمر ـ فأضرب عنقه ، ومكّن فلانا من فلان قرابته ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.

فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت يا رسول الله أخبرنى من أىّ شىء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت

٣٤

بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكى للذى عرض علىّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة منه ـ وأنزل الله عز وجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

وفى هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون ، وإنما ذكر فى أكثر الروايات أبو بكر رضى الله عنه ، لأنه أول من أشار بذلك ، ولأنه أكبرهم مقاما.

وروى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادوهم بأربعة آلاف ، أربعة آلاف.

الإيضاح

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كان من شأن نبى من الأنبياء ولا من سنته فى الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن فى الأرض أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه ، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

إلى أن كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغى ، ومن ثم أمر الله به.

وخلاصة ذلك ـ أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ـ ففى المعركة الواحدة يإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وفى الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال ؛ فبإثخانهم فى الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.

٣٥

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم ، والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها ، ويدخل فى ذلك الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة إرادة الإثخان فى الأرض والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل.

وفى ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة ، وما كان للنبى صلى الله عليه وسلم إقرار مثل هذا العمل ، ومن ثم عاتبهم الله على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين ، كما عاتب رسوله أيضا.

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا ، ويطلق لهم أخذ الفداء ، ولكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزّوا ، ونحو الآية قوله : «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».

ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان فى الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم فى عنفوان قوتهم وكثرتهم.

وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية فى العصر الحديث ، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل ، فتخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين ، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات.

ولكن الإسلام ـ وهو دين الرحمة والعدل ـ لا يبيح شيئا من ذلك.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولو لا كتاب من الله سبق فى علمه الأزلى ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم ـ لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.

أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال : «اختلف الناس فى أسارى بدر ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر ، فقال أبو بكر فادهم ، وقال عمر

٣٦

اقتلهم ، فقال قائل : أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء ، وقال قائل : لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبى بكر ففاداهم فنزل (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول الله : إن كاد ليمسّنا فى خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».

وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه ، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم فى أول السورة فقال :

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم ، طيبا فى نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فى أن تعودوا إلى أكل شىء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحلّه لكم ربكم.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبت حزبه ، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم ، وأباح لكم الانتفاع به.

وخلاصة ما تقدم ـ إنه ليس من سنة الأنبياء ، ولا مما ينبغى لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنّ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين ، لئلا يفضى أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم ، وما فعله المؤمون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، ولو لا كتاب من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته ـ لمسهم عذاب عظيم فى أخذهم ذلك ، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم ، الله غفور رحيم.

٣٧

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

المعنى الجملي

لما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم ، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا فى الإسلام ببيان ما فيه من خيرى الدنيا والآخرة ، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم وبشارة للنبى صلى الله عليه وسلم ، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.

روى أن الآية نزلت فى العباس وعقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث ، وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر ، فلم تبلغه النوبة حتى أسر ، فقال العباس :

كنت مسلما إلا أنهم أكرهونى ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علىّ فقال : أمّا شىء خرجت لتستعين به علينا فلا ، قال : وكلفنى الرسول فداء ابن أخى عقيل بن أبى طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحارث ، فقال العباس : تركتنى يا محمد أتكفف قريشا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدرى ما يصيبنى؟ فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ، فقال العباس : وما يدريك؟ قال أخبرنى ربى ، قال فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا الله وأنك

٣٨

عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها فى سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا فى أمرك ، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب.

قال العباس : فأبدلنى الله خيرا من ذلك ، لى الآن عشرون عبدا ، وإنّ أدناهم ليضرب فى عشرين ألفا ، وأعطانى زمزم وما أحب أن لى بها جميع أموال مكة ؛ وأنا أنتظر المغفرة من ربى.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ، إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي قل للذين فى أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء : إن كان الله تعالى يعلم أن فى قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر فى حينه ـ كما يدّعى بعضكم ـ يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فى المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها.

روى أبو الشيخ عن ابن عباس : أن العباس وأصحابه قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) الآية.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار ، والله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه ، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة فى الدنيا والآخرة.

وفى ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين ، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال ، فإنهم قد خانوا الله من قبل ، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية ، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله فى خلقه.

٣٩

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) يقال مكنه من الشيء وأمكنه منه. أي فمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم ، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب ، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة ، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين.

وفى الآية من العبر :

(١) إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى فى الإيمان ، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.

(٢) إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة فى كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم.

روى البخاري عن أنس «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ترك فداء عمه العباس رضى الله عنه وكان فى أسرى المشركين يوم بدر فقالوا : ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه (كانت جدته أنصارية) فقال صلى الله عليه وسلم : والله لا تذرون منه درهما».

وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا ، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين ، فقال له العباس : أللقرابة صنعت هذا؟ قال : فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ، إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) الآية فقال العباس (بعد إسلامه) وددت لو كان أخذ منى أضعافها لقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) اه.

وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك ،

٤٠