تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

وروى ابن جرير عن داود بن أبى عاصم قال : «أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.

ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقى المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية ، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فى منى.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك فى قسمة الصدقات وهى أموال الزكاة المفروضة ، إذ يزعمون أنك تحابى فيها وتؤتى من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعى العدل فى ذلك.

ثم بين سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال :

(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا ، أو أعطوا لتأليف قلوبهم ـ رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك.

(وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي وإن لم يعطوا منها فاجئوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء ، إذ لاهمّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره الله ، وقالوا الله يكفينا فى كل حال ، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات ، لأن فضله لا ينقطع ، ورسوله لا يبخص أحدا منا شيئا يستحقه فى شرع الله ، وقالوا إنا إلى الله نرغب فى أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم ـ لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع فى غير مطمع ومن همز الرسول ولمزه.

١٤١

والخلاصة ـ إنهم لو رضوا من الله بنعمته ، ومن الرسول بقسمته ، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته ، وبما سينعم به عليهم فى مستأنف الأيام ، وبأن الرسول يعدل فى القسمة لكان فى ذلك الخير كل الخير لهم.

وفى ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه ، ولا يرغب إلا إليه فى الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

تفسير المفردات

الصدقة : هى الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة ، والفقير ، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شىء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته ، والعامل عليها : هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء ، والمؤلفة قلوبهم : هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه ، وفى الرقاب : أي وللإنفاق فى إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق ، والغارمين : أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها ، وفى سبيل الله : أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته ، والمراد بهم كل من سعى فى طاعة الله وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء ، وابن السبيل : هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شىء من ماله فهو غنى فى بلده ، فقير فى سفره ، فريضة من الله : أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأى.

١٤٢

الإيضاح

مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية :

(١) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء ، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.

(٢) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى : «أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» أي ألصق جلده بالتراب فى حقرة استتر بها مكان الإزار ، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.

(٣) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها ، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منها عمالتهم على عملهم لا على فقرهم.

روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال : استعملني عمر على الصدقة ، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لى بعمالة ، فقلت إنما عملت لله ، فقال : خذ ما أعطيت فإنى عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلنى (أعطانى العمالة) فقلت مثل قولك ، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق».

(٤) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام ، أو تثبيتهم فيه ، أو كفّ شرهم عن المسلمين ، أو رجاء نفعهم فى الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم ، وهم أصناف ثلاثة :

(ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر فى أمره وأعطاه إبلا محمّلة ، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر ، وروى أنه قال : والله

١٤٣

لقد أعطانى وهو أبغض الناس إلىّ ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحبّ الناس إلى ، وقد حسن إسلامه.

(ب) صنف أسلم على ضعف ، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته فى الجهاد كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن ، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان ، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.

(ح) صنف من المسلمين فى الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.

ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله الإسلام ، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.

(٥) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق فى فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء فى فك رقابهم من لرق ، أو لشراء العبيد واعتقاقهم ، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.

روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار ، فقال : أعتق النّسمة وفكّ الرقبة ، فقال يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا : عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين بثمنها».

(٦) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة فى دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة ، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل ، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.

١٤٤

فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : «تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ، ثم قال يا قبيصة : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.

(٧) (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته ، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد ، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل فى ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.

والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر ، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.

(٨) (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده فى سفر لا يتيسر له فيه شىء من ماله إن كان له مال ، فهو غنى فى بلده ، فقير فى سفره ، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.

وفى ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره فى غير معصية ، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى ، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

وسهولة طرق الوصول فى العصر الحاضر ونقل الأخبار فى الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة ، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله فى أي وقت أراد ، وإلى أي مكان طلب.

١٤٥

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين ، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من الله لهم أوجبها عليكم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم ، حكيم فيما يشرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها ، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال : «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها».

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))

تفسير المفردات

الأذى : ما يؤلم الحي المدرك فى بدنه أو فى نفسه ولو ألما خفيفا ، يقال أذى بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير ، والأذن : هو الذي يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه ، ويقولون رجل أذن : أي يسرع الاستماع والقبول ، ويؤمن للمؤمنين : أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن فى أفعاله صلى الله عليه وسلم كإيذاء الذين لمزوه فى قسمة الصدقات ـ قفى على ذلك بذكر من طعن فى أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا.

روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : «كان نبتل بن الحارث يأتى

١٤٦

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن ، من حدثه شيئا صدقه فأنزل الله الآية».

وروى أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشّ بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا فى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم ، وقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) الآية.

الإيضاح

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة : أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه ، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه ، وما لا ينبغى قبوله ، وهذا عيب فى الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين ، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر ، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن ، لأنه أذن خير لا كما تزعمون ، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق ، وليس بأذن فى سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء ، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم ، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه.

ثم بين سبحانه المراد من أذن الخير بقوله :

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق بالله وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير

١٤٧

غيركم ، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار ، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به.

وفى هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم فى أخبارهم وإن وكدوها بالإيمان اغترار بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم ، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره ، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.

(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا ، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا ، إذ هو نقمة عليه فى الدارين.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام.

وفى هذه الآية وما فى معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته ، لأن ذلك ينافى الإيمان. وأما إيذاؤه فى شئونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث فى بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل : «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ».

وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه فى حال حياته كالخوض فى أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا ، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم مانع من تصدى المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله عليه إيذاء ما ، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.

١٤٨

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

تفسير المفردات

المحادّة من الحد : وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق (بالكسر) وهو الجانب ، ونصف الشيء المنشق منه ، وهما بمعنى المعاداة من العدوة (بالضم) وهى جانب الوادي لأن العدو يكون فى غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما فى شق وعدوة غير التي فيها الآخر ، إذ هما على طرفى نقيض ، وهكذا المنافقون يكونون فى الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح.

المعنى الجملي

روى ابن المنذر عن قتادة قال : «ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال فى شأن المتخلفين فى غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت شر من الحمار ، وسعى بها الرجل إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : (ما حملك على الذي قلت؟) فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية».

الإيضاح

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم ، وقد كان من دأبهم

١٤٩

أن يتكلموا بما لا ينبغى أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم.

وفى كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين فى كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضوهم فلا يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم ـ دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم.

(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين ، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين ، ولكن الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، فيوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين.

وفى التعبير بيرضوه دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى ، لأنه إرضاء له فى اتباع ما أرسله به.

(إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون ـ فليرضوا الله ورسوله وإلا كانوا كاذبين.

وفى الآية عبرة للمنافقين فى زماننا وفى كل زمان ، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس ، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضى ربهم ، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل.

ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله :

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد الله ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول فى أعماله كقسمة الصدقات ، أو فى أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن ـ فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخلص له منها.

١٥٠

(ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خزى وذل فى الحياة الدنيا.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

تفسير المفردات

الحذر : الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه ، والإخراج : إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض ، والخوض : الدخول فى البحر أو فى الوحل ، وكثر استعماله فى الباطل لما فيه من التعرض للأخطار ، والاعتذار : الإدلاء بالعذر ، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبى يعذره أي ختنه تطهيرا له بقطع عذرته أي قلفته ، والطائفة : الجماعة من الناس والقطعة من الشيء : يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر ، وأعطاه طائفة من ماله.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك ، أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يفشى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

١٥١

الإيضاح

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما فى قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشى أسرارهم.

وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعى للشك والارتياب ، إذ هم كانوا شاكين مرتابين فى الوحى ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشىء من الإيمان ولا من الكفر ، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين ، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر ، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال ، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين.

والخلاصة ـ إنهم يحذرون أن تنزل سورة فى شأنهم وبيان حالهم ، فتكون فى ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي قل لهم : استهزئوا فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم.

ونحو الآية قوله : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ».

ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد على فعلهم ، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبئات سرائرهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين ، بل هازلين لاعبين للتسلى والتلهي ، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى : «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» وقال : «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ».

١٥٢

ويدخل فى عموم الآية المبتدعون فى الدين ، والذين يخوضون فى الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.

أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال : «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوته إلى تبوك ، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون : أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فقال : (احبسوا على هؤلاء الركب) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبى الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ما تسمعون».

(قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟) أي قل لهم : إن الخوض واللعب فى صفات الله وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به ، وكل مستخف به فهو مستهزأ به.

وقصارى ذلك ـ ألم تجدوا ما تستهزئون به فى خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما ، فهل ضاقت عليكم سبل القول ، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا ، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتدلون بها بلا خوف ولا خجل.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم ، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغى أن يكون ، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما يقال : عذر أقبح من الذنب.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشّ بن حمير نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.

وخلاصة ذلك ـ إن من تاب من كفره ونفاقه عفى عنه ، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.

١٥٣

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

تفسير المفردات

بعضهم من بعض : أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت منى وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا ، والمنكر : إما شرعى وهو ما يستقبحه الشرع وينكره ، وإما فطرى : وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة ، وضده المعروف فى كل ذلك ، وقبض الأيدى : يراد به الكف عن البذل ، وضده بسط اليد ، نسوا الله : أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ ، فنسيهم : أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك فى الآخرة ، والفاسقون : أي الخارجون عن الطاعة ، المنسلخون عن فضائل الإيمان ، والوعد : يستعمل فى إعطاء الخير والشر والنافع والضار ، والوعيد خاص بالشر ،

١٥٤

واللعن : الإبعاد من الرحمة والإهانة والمذلة ، والمقيم : الثابت الذي لا يتحول ، بخلاقهم : أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، وخضتم : أي دخلتم فى الباطل ، وحبط العمل : فسد وذهبت فائدته ، والخسارة فى التجارة : تقابل الربح فيها ، وأصحاب مدين : قوم شعيب ، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك : وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف ، وهى قرى قوم لوط.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه فى هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها ، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء فى زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد ، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة فى روابط الاجتماع وآثار الأخلاق فى تلك الروابط.

الإيضاح

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون فى صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى فى آل إبراهيم وآل عمران «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» وقال الشاعر :

تلك العصا من هذه العصيّه

هل تلد الحيّة إلا حيّه

ثم بين ذلك التشابه فقال :

(يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما جاء فى الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» رواه الشيخان عن أبى هريرة.

١٥٥

وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال فى سبيل الله للقتال كما حكى الله عنهم بقوله «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا».

واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل ، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق فى سبيل الله أقوى دلائل الإيمان.

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر ، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان ، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه فى الدنيا ، ومن الثواب فى الآخرة.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل ، حتى من الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة ، فهم لا يبلغون مبلغهم فى الفسوق والخروج من طاعة الله والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة.

ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي وعد الله هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ما كثين فيها أبدا.

وقدم المنافقين فى الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام ـ شر من الكفار ، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب.

(هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم فى الآخرة على أعمالهم ، وعليهم لعنة الله فى الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون ، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسّموم الذي يلفح وجوههم ، والحميم الذي يصهر ما فى بطونهم ، والضريع الذي

١٥٦

لا يسمن ولا يغنى من جوع ، وحرمانهم من لقاء الله وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال : «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ».

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم فى أقوام الأنبياء فتنثم بأموالكم وأولادكم وغررتم بدنياكم كما فتنوا وغرّوا بها ، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا ، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد ، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها ، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتى يقصدها أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم فى الاستمتاع بخلاقكم ، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم ، ولم تفضلوا عليهم بشىء من الاسترشاد بكلام الله وهدى رسوله ، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكى النفوس وتجعلها أهلا للسعادة ، فكنتم أجدر بالعقاب منهم ، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم ، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.

والخلاصة ـ إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم مع توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون.

(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي ودخلتم فى الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضى أن تكونوا أهدى منهم سبيلا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين فى الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية

١٥٧

فكان ضررها أكبر من نفعها لهم ، لإسرافهم وإفسادهم فى الأرض ، وكذلك أعمالهم الدينية فى الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف ، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة ، إذ شرط قبولها فى الآخرة الإيمان والإخلاص ، فهم خسروا فى مظنة الربح والمنفعة.

ونحو الآية قوله : «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟».

ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال :

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود ، والصيحة التي أخذت ثمود ، والعذاب الذي هلك به النّمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.

وما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب ، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه ، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم.

وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم والمنافقين ، ليبين لهم أن سنة الله فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة ، فلابد أن يحلّ بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا.

وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم فى أول غزوة وهى غزوة بدر ، ثم خذل من بعدهم فى سائر الغزوات ، وما زال المنافقون يكيدون له فى السر حتى فضحهم الله بهذه السورة ، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبىّ بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.

١٥٨

وبهذا التمحيص كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس.

نشر الله بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب فى الدنيا والآخرة ـ قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.

الإيضاح

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الولاية ضد العداوة ، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة ، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية ، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان :

تظلّ جيادنا متمطّرات

تلطّمهن بالخمر النساء

وقال فى وصف المؤمنين : بعضهم أولياء بعض ، وفى وصف المنافقين بعضهم

١٥٩

من بعض ـ لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد ، وبالبنيان يشد بعضه بعضا ، وبينهم ولاية النصرة فى الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة الله.

أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا فى الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال ، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال ، ومن ثم أكذب الله منافقى المدينة فى وعدهم لليهود حلفاتهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم فى قوله : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ».

(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وصف الله المؤمنين فى هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها فى المنافقين.

(ا) إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.

(ب) إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف ، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل.

(ح) إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب فى مناجاته ، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس.

(د) إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وفّقوا له من التطوع ، والمنافقون يقبضون أيديهم ، والمنافقون وإن كانوا يصلون ، لم يكونوا يقيمون الصلاة ، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه : «وَما مَنَعَهُمْ

١٦٠