تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي ولا تضروا الله شيئا من الضرر فى تثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه ، فهو الغنى عنكم فى كل أمر ، وهو القاهر فوق عباده ، وكل من فى السموات والأرض مسخر بأمره ، ولكن قد جعل للبشر شيئا من الاختيار ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي والله قادر على كل شىء ، فهو يقدر على إهلاككم والإتيان بغيركم (إن أصررتم على عصيان رسوله وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه) ممن يجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولا يخشون فى الحق لومة اللائمين كما قال : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».

ثم رغبهم ثانية فى الجهاد فأبان لهم أنه تعالى المتوكل بنصره ـ على أعداء دينه ـ أعانوه أو لم يعينوه وهو قد فعل ذلك به وهو فى قلة من العدد والعدو فى كثرة ، فكيف وهو من العدد فى كثرة والعدو فى قلة فقال :

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم فى سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله وأعداء رسوله ـ فسينصره الله بقدرته وتأييده ، كما نصره حين أجمع المشركون على الفتك به واضطروه إلى الخروج والهجرة حال كونه أحد اثنين وثانيهما أبو بكر فى غار جبل ثور حين كان يقول لصاحبه إذ رأى منه أمارة الحزن : لا تخف ولا تحزن إن الله معنا بنصره ومعونته وحفظه وتأييده فلن يعلم بنا المشركون ولن يصلوا إلينا.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس قال : «حدثنى أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فى الغار فرأيت آثار المشركين ، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»

١٢١

وخلاصة ذلك ـ إلا تنصروه بالنّفر لما استنفركم له ، فإن الله قد ضمن له النصر فهو ينصره كما نصره فى الوقت الذي اضطره المشركون إلى الهجرة ، حين كان ثانى اثنين فى الغار وكان صاحبه قد ساوره الحزن فقال له : لا تحزن إن الله معنا ، ونحن لا نكلّف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي فأنزل الله طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأحد ، وقيل بل هم ملائكة أيده بهم فى حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما ، فقد خرج والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) أي وجعل كلمة الشرك والكفر هى السفلى ، وكلمة الله وهى دينه المبنى على أساس توحيده تعالى والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة ، والخالي من شوائب الشرك وخرافات الوثنية ـ هى العليا بظهور نور الإسلام وإزالة سيادة المشركين فى تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً».

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله غالب على أمره ، حكيم إذ يضع الأشياء فى مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته ، وأذل من ناوأه من المشركين.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))

١٢٢

المعنى الجملي

بعد أن توعد من لم ينفروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم ـ أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه ، فأوجب النفير العام على كل فرد ، فلا عذر لأحد فى التخلف وترك الطاعة.

الإيضاح

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) الخفاف واحدها خفيف ، والثقال واحدها ثقيل ، وهما يكونان فى الأجسام وصفاتها من صحة ومرض ونحافة وسمن ونشاط وكسل ، وشباب وكبر ، ويكونان فى الأسباب والأحوال كالقلة والكثرة فى المال ، ووجود الراحلة وعدم وجودها ، ووجود الشواغل أو انتفائها.

أي انفروا على كل حال من يسر أو عسر وصحة أو مرض وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك مما ينتظم فى مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة فى الجملة.

فإذا أعلن النفير العام وجب الامتثال إلا حال العجز التام ، وهو ما بينه الله تعالى فى قوله : «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».

ويؤيد هذا التعميم فى عموم الأحوال قول أبى أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة : قال الله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا ، وروى عن أبى راشد الحرّانى قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ـ وقد فضل عنها من عظمه ـ يريد الغزو ، فقلت قد أعذر الله إليك ، فقال أبت علينا سورة البعوث (يريد براءة) انفروا خفافا وثقالا.

١٢٣

وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدى النبي وعمله ففتحوا البلاد وسادوا العباد ، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه ذلوا وضعفوا واستكانوا وسادتهم الشعوب الأخرى وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين وصاروا عبيدا لأعدائهم.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون فى سبيل الطاغوت ويفسدون فى الأرض ، وابذلوا أموالكم وأنفسكم فى إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق.

فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه وجب عليه ذلك ، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان فى مقدرته.

وقد كان المسلمون فى الصدر الأول ينفقون على أنفسهم من أموالهم ويبذلونها لغيرهم إن استطاعوا كما فعل عثمان رضى الله عنه فى تجهيز جيش العسرة فى هذه الغزوة ، وكما فعل غيره من ذوى اليسار من الصحابة.

ولما أصبح فى بيت المال فضلة من المال بكثرة الغنائم صار الملوك والسلاطين يجهزون الجيوش من بيت المال ، وكذلك تفعل الآن الدول المتمدينة ، فتخصص جزءا من المال كل عام للنفقات الحربية من برية وبحرية ، ويزداد هذا المال إذا دعت الحاجة إلى زيادته ، بل قد يجعلون أموال الدولة كلها ومرافقها وقفا على المصالح الحربية ، وقد كان المسلمون أحق منهم بذلك وأجدر.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة فى حفظ كيان الأمم وعلو كلمتها ـ خير لكم فى دينكم ودنياكم ؛ أما فى الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق ويقيم العدل باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم.

وأما فى الدنيا فإنه لا عز للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هى وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه.

١٢٤

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك علما يبعث على العمل ، فانفروا وجاهدوا ، وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه.

ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة ، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل الله فى أثناء السفر قوله :

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

تفسير المفردات

العرض : ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع مما لا ثبات له ولا بقاء وليس فى الوصول إليه كبير عناء ، ويقال سير قاصد وسفر قاصد : أي هين لا مشقة فيه من القصد وهو الاعتدال.

والشقة : الطريق لا تقطع إلا بعناء ومشقة ، والعفو : التجاوز عن التقصير وترك المؤاخذة عليه.

المعنى الجملي

بعد أن رغبهم سبحانه فى الجهاد فى سبيل الله ، وبين أن فريقا منهم تباطئوا وتثاقلوا ـ قفى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية ، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم فى القعود والتخلف ليأذن لهم.

١٢٥

الإيضاح

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) أي لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس فى الوصول إليها كبير عناء ، وسفرا هينا لا تعب فيه ، لا تبعوك وأسرعوا بالنفر إليه ، إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعى فى الإنسان ، ولا سيما إذ كانت سهلة المأخذ قريبة المنال وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم كأولئك المنافقين.

(وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد وكلفتهم سفرا شاقا ، لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ ، وحين الحاجة إلى الكنّ ، فتخلفوا جبنا وحبّا للراحة والسلامة.

(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي وسيحلفون لك عند رجوعك من غزوة تبوك كما قال : «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ» قائلين لو استطعنا الخروج إلى الجهاد وانتفت الأعذار المانعة منه لخرجنا معكم ، فما كان تخلفنا إلا اضطرارا.

(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يهلكون أنفسهم بإيقاعهم فى العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه ، تأييدا للباطل بالباطل ، وتقوية للإجرام بالإجرام ، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع».

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فى حلفهم بالله وقولهم لو استطعنا لخرجنا معكم ، فهم كانوا للخروج مطيقين ، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوى يسرة فى المال.

ثم عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم فقال :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) أي عفا عنك ما أدى إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك فى الاعتذار.

(لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) أي لأى شىء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا ، وهلا

١٢٦

تريثت فى الإذن لهم وتوقفت عنه حتى ينجلى أمرهم وينكشف حالهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله :

(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى يتبين لك الفريقان ، فتعامل كلّا بما ينبغى أن يعامل به ، فإن الكاذبين لا يخرجون ، أذنت لهم أو لم تأذن ، فكان من الأجدر بك أن تتلبّث فى الإذن أو تمسك عنه اختبارا لحالهم.

روى عن مجاهد فى قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) هم ناس قالوا استأذنوا رسول الله ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وعن قتادة فى قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لقد كانوا يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة فى الجهاد.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦))

المعنى الجملي

تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة ، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين ، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة ، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شئونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.

وهذه الآيات أول ما نزل فى التفرقة بين المنافقين والمؤمنين فى القتال.

١٢٧

الإيضاح

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال ، وباليوم الآخر الذي يوفى فيه كل عامل جزاء ما عمل ، أن يستأذنوك أيها الرسول فى أمر الجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا جدّ ما يدعو إلى ذلك ، بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان كما قال : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل.

وهم بالأولى لا يستأذنوك فى التخلف عنه بعد إعلان النفر العام ، وأقصى ما قد يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدا.

روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنة يبتغى القتل والموت فى مظانّه إلخ».

والمراد أن خير أعمال الرجل أن يعدّ فرسه رباطا فى سبيل الله ، كلما سمع صيحة لقتال ، أو فزعة (أي دعوة للإغاثة) طار على فرسه يبتغى القتل والموت فى مظانه ، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل فيها.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته فى غزو عدوه وجهادهم بماله ونفسه ، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال.

وفى الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستئذان فى أداء شىء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف وإغاثة الملهوف وسائر أعمال المعروف.

ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة فى التوكيد والتقرير فقال :

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي إنما يستأذنك فى التخلف عن الجهاد معك من غير عذر من

١٢٨

لا يصدّقون بالله ولا يقرّون بتوحيده ولا باليوم الآخر ، فهؤلاء يرون بذل المال مغرما يفوّت عليهم بعض المنافع ، وهم لا يرجون ثوابا عليه كما يرجو المؤمنون ، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب ، وقد وقع لهم الريب والشك فى الدين من قبل ، فلم تطمئنّ به قلوبهم ، ولم تذعن له نفوسهم ، فهم متحيّرون فى أمرهم مذبذبون فى عملهم ، يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام من صلاة وصيام ، ويلتمسون الخلاص فيما يشق عليهم من تكاليفه ، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشىء منها.

وقد جاء فى بعض الروايات أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي ولو صحت بيتهم للخروج لاستعدوا له وأخذوا الأهبة من زاد وراحلة ونحو ذلك مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا.

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) الانبعاث : توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة كبعث الرسل وبعث الموتى ، والتثبيط : التعويق عن الأمر والمنع منه.

أي كره الله نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم ، فثبطهم بما أحدث فى قلوبهم من المخاوف التي هى مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها ، ومن ثم لم يعدّوا للخروج عدته ، لأنهم لم يريدوه ، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان.

(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعبارة تدل على السخط لا على الرضا ، أي اقعدوا مع الأطفال والزّمنى والعجزة والنساء وهم قد حملوه على ظاهره لموافقته لما يريدون.

١٢٩

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

تفسير المفردات

الخبال : الاضطراب فى الرأى والفساد فى العمل ، كضعف القتال والخلل فى النظام ، ويقال وضع الرجل إذا عدا مسرعا ، وأوضع راحلته إذا حملها على الإسراع ، وخلال الأشياء : ما يفصل بينها من فروج ونحوها ، والفتنة : التشكيك فى الدين والتخويف من الأعداء ، وسماعون لهم : أي ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم ، وتقليب الشيء :

تصريفه فى كل وجه من وجوهه والنظر فى كل ناحية من أنحائه ؛ والمراد أنهم دبروا الحيل والمكايد ودوّروا الآراء فى كل وجه لإبطال دينك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم فى التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم ـ قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها فى أمور ثلاثة :

(١) الاضطراب فى الرأى وفساد النظام (٢) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة.

(٣) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.

١٣٠

الإيضاح

(١) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون فى القعود معكم ، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن فى القوى المتحدة فى العقيدة والمصلحة ، بل زادوكم اضطرابا فى الرأى وضعفا فى القتال ومفسدة للنظام ، كما حدث مثل ذلك فى غزوة حنين ، فقد ولّى المنافقون الأدبار فى أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة ، ومن ثم اضطرب نظام الجيش ، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن فى مثل هذه الأحوال.

(٢) (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا فى الدخول فيما بينكم سعيا فى النميمة وتفريق الكلمة ، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب فى قلوبكم.

(٣) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم يسمعون كلامهم ، فإذا ألقوا إليهم شيئا مما يوجب ضعف العزائم قبلوه وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغى.

ووجه العتاب على الإذن فى قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم ـ أنهم لو قعدوا بغير إذن منه لظهر نفاقهم بين المسلمين بادىء ذى بدء ، فلم يستطيعوا مخالطتهم ولا السعى فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها ، وتسوء عاقبتها.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) علما يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر ، وبما هم مستعدون له فى كل حال مما وقع ومما لم يقع ، فأحكامه فيهم على علم تامّ لاظن فيه ولا اجتهاد كالجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فى الإذن لهم ، والذي تثبت هذه الآية أنه شر لا خير فيه وهو ضعف لا قوة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم ، فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.

١٣١

وقد كان من حكمة الله فى تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها لتكون أوقع فى نفسه ونفس أتباعه فيحرصوا على العمل بها ، ولا يحكموا أهواءهم فيها ، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه ، ويهتدون بهديه.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة فى المسلمين وتفريق شملهم من قبل هذه الغزوة فى غزوة أحد حين اعتزلهم عبد الله بن أبىّ ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش فى موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد ، وطفق يقول للناس : أطاع النبي الولدان ومن لا رأى له ، فعلام نقتل أنفسنا؟ ، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد فرجع بمن اتبعه من المنافقين ، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون ولكن عصمهما الله من الفتنة.

وكان دأب المنافقين أن يدبروا له الحيل والمكايد ليبطلوا أمره ، فكان لهم ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين فى كل ما فعلا من عداوته وقتال المؤمنين ـ حتى جاء النصر الذي وعده ربه وظهر دين الله وعلا شرعه بالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود ، والنصر على المشركين بفتح مكة ودخول الناس فى الإسلام أفواجا وهم كارهون لذلك ، حتى لقد كانوا يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين فى حنين وعودة الشرك إلى قوته.

وفى الآيتين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المنافقين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله ، وفيه هتك أستارهم وإزاحة أعذارهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))

١٣٢

المعنى الجملي

هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون ، بعضها قيلت جهرا ، وبعضها أكنّوه فى أنفسهم ، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم ، وشئون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي ومن المنافقين ناس يستأذنونك فى التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا بنساء الروم.

روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس «يا جدّ هل لك فى جلاد بنى الأصفر؟ قال جدّ ، وكان من شيوخ المنافقين : أتأذن لى يا رسول الله فإنى رجل أحب النساء وإنى أخشى إن أنا رأيت نساء بنى الأصفر أن أفتتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه (قد أذنت لك) فنزلت الآية».

وقد ردّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها بقوله :

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا وتردّوا فى هاوية

١٣٣

الفتنة ، حين اعتذروا بالمعاذير الكاذبة ، من حيث يزعمون اتقاء التعرض للإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم ، وشغل القلب بمحاسنهن (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذّب رسله ، جامعة لهم يوم القيامة ، وكفى بها نكالا ووبالا.

وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردّوا فيها ، وبيان لأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار ، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم حتى لا رجاء فى توبتهم منها كما قال تعالى «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الحسنة ما يسرّ النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما : أي إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة كما حدث يوم بدر ـ يورثهم كآبة وحزنا لفرط حسدهم وعداوتهم.

(وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) أي وإن تصبك شدة كانكسار جيش كما حدث يوم أحد ـ يقولوا معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا ، قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحذر والحزم كما هو دأبنا ، إذ تخلفنا عن القتال ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك ، وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول وهم فرحون فرح البطر والشماتة.

روى ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا فى المدينة يشيعون أخبار السوء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقولون إنهم جهدوا فى سفرهم وهلكوا ، فبلغهم بعد ذلك كذب خبرهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الآية.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي قل أيها الرسول لأولئك المنافقين

١٣٤

الذين يفرحون بمصابك وتسوءهم نعمتك : لن يصيبنا إلا ما خطّ لنا وكتب فى اللوح المحفوظ بحسب سننه تعالى فى خلقه من نصر وغنيمة أو تمحيص وشهادة ، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم ، فالأمور كلها بقضائه تعالى.

(هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي هو ناصرنا ومتولى أمورنا بتوفيقنا ونصرنا ، ونحن نلجأ إليه ونتوكل عليه ، فلا نيأس عند شدة ، ولا نبطر عند نعمة ، كما قال سبحانه فى بيان سننه تعالى فى خلقه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

ومن حق المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه فى شرعه ، ويهتدى بسننه فى خلقه ، من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية كإعداد العدّة واتقاء التنازع الذي يولّد الفشل ويفرّق الكلمة ، ثم بعد ذلك يكل الأمر إليه فيما لا تصل إليه الأيدى من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح.

ويقابل التوكل بهذا المعنى اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها ، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر وأدركهم اليأس حين حلول البأس ، واتكال ذوى الأوهام الذين يتعلقون بالأمانى والأحلام ، حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم نكصوا على أعقابهم وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين ، وهو إنما وعد أولياءه لا أولياء الشيطان ، وذوى الخرافات والأوهام.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا ، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي قل لهم : أيها الجاهلون ، هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة ، ونحن نتربص بكم إحدى السّوءيين أن يصيبكم ربكم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها ، كما فعل بالأمم المكذّبة لرسلها ، أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم ، فتربصوا

١٣٥

بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم ، فنحن على بينة من ربنا ولا بينة لكم ، فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه ، لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا.

والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة ، وتعللاتهم الباطلة فى التخلف عن القتال ، وذكر ما يجول فى نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأنهم يتربصون بهم الدوائر ـ قفى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد فى هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها ، لما يبطنونه فى صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله ، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء الناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها ، وأن أموالهم الكثيرة إنما هى عذاب لهم فى الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا من أموالكم ما شئتم فى الجهاد أو فى غيره من

١٣٦

النفقات التي أمر الله بها وحث فى شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس ، وكرها وخوفا من العقوبة ، فمهما أنفقتم فلن يتقبّل منكم ما دمتم فى شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال فى الآخرة ، لأنكم قوم فاسقون أي خارجون من دائرة الإيمان ، والله إنما يتقبل من المؤمنين.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق ، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من الهدى والبينات.

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ولا يصلون إلا رياء وتقيّة ، لا إيمانا بوجوبها ، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها ، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه الله لأجلها ، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولا ينفقون أموالهم فى مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم ، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم ، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا فى الدنيا وهو واضح ولا فى الآخرة ، إذ لا يؤمنون بها.

ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله كثرة المال وطغيان الغنى بين سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال :

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه.

أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هى من أكبر النعم وأجلها ، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم ـ وقد حرموا ثوابها فى الآخرة ـ صفا لهم نعيمها فى الدنيا ، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه :

١٣٧

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة.

أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصب والتعب فى جمعها واكتسابها ، ويلاقون ما هو أشد من ذلك فى حفظها وصونها من الهلاك ، فالمشغوف بالمال يكون أبدا فى تعب الحفظ والصون ، وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».

وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشئوا فى الإسلام واطمأنت به قلوبهم ، فهم يجاهدون فى سبيل الله بأنفسهم وأموالهم ، وربما ماتوا فى الغزو ـ فيجزعون أشد الجزع ، إذ لا يعتقدون شهادتهم ، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويموتون ويهلكون وهم كافرون ، فيعذبون بها فى الآخرة إثر ما عذّبوا بها فى الدنيا ، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

تفسير المفردات

الفرق (بالتحريك) الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه ، والملجأ : المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة فى بحر أو قنّة فى جبل ، والمغارات : واحدها مغارة وهى الكهف فى الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر والمدّخل (بالتشديد) السرب فى الأرض يدخله الإنسان بمشقة ، والجماح : السرعة التي تتعذر مقاومتها.

١٣٨

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون ، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين ، وذكر أنهم يتمنّون أن تدور الدوائر على المؤمنين قفّى على ذلك بذكر غلوّهم فى النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة ، وأنهم يتمنون أن يجدوا أىّ السبل للبعد عن المؤمنين ، فيلجئوا إليها مسرعين.

الإيضاح

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي ويحلفون بالله لكم كذبا إنهم منكم فى الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق ، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي إنهم لشدة كرمهم للقتال معكم ، ولبغض معاشرتهم إياكم ، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش فى مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم ، فلو استطاعوا السكنى فى الحصون والقلاع ، أو فى كهوف الجبال ومغاراتها ، أو فى أنفاق الأرض وأسرابها ـ لولّوا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شىء.

وإنما وصفهم الله سبحانه بتلك الأوصاف ، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفى دورهم وأموالهم ، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه ، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان ، وفى أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.

١٣٩

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

تفسير المفردات

اللمز : العيب والطعن فى الوجه ، والهمز : الطعن فى الغيبة ، ورغبه ورغب فيه : أحبه ، ورغب عنه : كرهه ، ورغب إليه : طلبه وتوجه إليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا فى ذلك طريقا لخدعة المؤمنين فى تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كى يأمنوا جانبهم ، وأنهم يجدّون فى البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهى أنهم يتمنّون الفرص للطعن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يواقعوا الريب فى قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم ، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم ، فولجوا هذا الباب وقالوا ما شاءوا أن يقولوا.

روى البخاري والنسائي عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله ، فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب : ائذن لى أن أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فنزلت فيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية».

١٤٠