تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

والحقوق الواجبة عليه لنفسه (روحية كانت أو جسدية) وللناس ، ويكون فى الآخرة منعما نعيما روحيا وجسديا.

وخلاصة ذلك : إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء فى الدنيا والآخرة ، لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة.

(١) إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان ـ إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدى الخلق خاضعا للخاللق وحده.

(٢) إنه يهدى إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله ، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب عامة بين ما كفر به النصارى خاصة

٨١

الإيضاح

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المسيحيون فى هذا العصر فرق ثلاث : الكاثوليك والأرثوذ كس والبروتستانت (أي إصلاح النصرانية) وهذا المذهب الأخير حدث من نحو أربعة قرون وصار هو المذهب السائد فى أعظم الأمم مدنية وارتقاء كالولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا ، وقد أزال هذا المذهب كثيرا من التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله واستبدل بها تقاليد أخرى ، ومع كل هذا فهؤلاء المصلحون لم يستطيعوا أن يرجعوا المسيحية إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح ودين سائر الأنبياء ، فلا يزالون يقولون بالتثليث ويعدون الموحّد غير مسيحى كما تقول بذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان.

وجميع فرق النصارى فى هذا العصر تقول : إن الله هو المسيح بن مريم وإن المسيح ابن مريم هو الله ، ولكن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة إذ كان بعضهم يفسر الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة والقول بها لا ينافى توحيد الخالق كما أنه يوجد الآن فى نصارى أوربا وغيرهم موحدون يعتقدون أن المسيح نبى ورسول لا إله.

قال الدكتور بوست البروتستانتى فى تاريخ الكتاب المقدس (طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الآب ، والله الابن ، والله الروح القدس ، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفدى ، وإلى الروح المقدس التطهير.

غير أن هذه الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء).

والعمدة عندهم فى هذه العقيدة عبارة جاءت فى إنجيل يوحنا وهى (فى البدء كانت الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، والله هو الكلمة) وقد فسروا الكلمة بالمسيح فيصير معنى الفقرة الثالثة من إنجيل يوحنا (والله هو المسيح بن مريم) وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم.

٨٢

ولا شك أن هذه العقيدة وثنية أخذت عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثنى الشرق والغرب.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً؟) أي قل أيها النبي الكريم لهؤلاء النصارى : من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه ، بل عن سائر الخلق جميعا إن أراد أن يهلكهم ويبيدهم؟

وخلاصة هذا ـ إن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض ، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يستطيع أحد أن يردّ إرادته ، لأنه هو مالك الملك الذي يصرّفه بمقتضى مشيئته وإرادته ، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره ، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شىء؟

ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه وأهل الأرض قاطبة؟ فهو صاحب الملك المطلق والتصرف فى السموات والأرض وما بينهما أي وما بين العالمين العلوي والسفلى بالنسبة إليكم.

ثم دفع شبهة تحوك فى صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال :

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي إن تلك الشبهة التي عرضت لكم وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله ـ هو أنه خلق على غير السنة العامة وأنه عمل أعمالا عجيبة لا تصدر من عامة البشر ، فالله له ملك السموات والأرض ، ويخلق الخلق على مقتضى مشيئته ، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان ، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام ، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط ، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى ، وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض ، ولا على ألوهية لبعضها ، ولا حلول الإله الخالق فيها ، فسنة الله فى خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها وربّا ، لأن هذه المزايا فى الخلق كلها بمشيئة الخالق ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا.

٨٣

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبقدرته يخلق ما يشاء ، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى ، وتارة بدون أب ولا أم كما فى آدم ، وأخرى من أم ولا أب له كما فى عيسى عليه السلام.

والخلاصة ـ إن كل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته ، وإنما يعدّ بعضه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى ، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون عن علم كسبىّ يجهله غيرهم ، أو عن تأييد ربانىّ لا صنع لهم فيه ولا تأثير

روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبىّ وبحرىّ بن عمرو وشاس بن عدى من اليهود فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته فقالو : ما تخوفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كما قالت النصارى ذلك فأنزل الله فيهم :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إلى آخر الآية ، وقد جاء إطلاق هذا اللفظ (أبناء لله) فى الإنجيل على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين كما حكاه متّى فى وعظ المسيح على الجبل من قوله : (طوبى لصانعى السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون) وكقول بولس فى رسالته إلى أهل رومية (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فألئك هم أبناء الله) ومن هذا يعلم أن (ابْنُ اللهِ) يستعمل فى كتبهم بمعنى حبيب الله الذي يعامله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم ، ولكن النصارى تحكموا فى هذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي للمسيح ، وبالمعنى المجازى بالنسبة إلى غيره من الصالحين.

وقد رد الله عليهم بقوله لنبيه :

(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي قل لهم أيها النبي إذا كان الأمر كما زعمتم ، فلم يعذبكم الله بذنوبكم فى الدنيا كما ترون؟ من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر ، ولبلدكم المرة بعد المرة ، ومن إزالة ملككم من الأرض ، والأب لا يعذب ابنه ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، فلستم إذا

٨٤

أبناء الله ولا أحباؤه ، بل أنتم بشر من جملة ما خلق ، والله سبحانه لا يحابى أحدا ، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة ، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب ، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم ، فكل هذا لا يجزيكم فتيلا ولا قطميرا وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح وصالح الأعمال ، فالجزاء إنما يكون عليها ، لا على الأسماء والألقاب :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إنه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق فى كل شىء بمقتضى علمه وحكمته وعدله وفضله ، وجميع المخلوقات عبيد له ، لا أبناء ولا بنات «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» وفى ختمها بقوله «وإليه المصير» إشارة إلى أنه سيعذبهم فى الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة ، وأنهم عند ما يصيرون إليه يعلمون أنهم عبيد آبقون يجازون ، لا أبناء ولا أحباء يحابون.

وقد كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميّزهم عن سائر البشر ، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم وإن كان أصح منهم إيمانا وأصح أعمالا ، ولا ينبغى أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لأنه عربى لا إسرائيلى ، والفاضل لا يتبع المفضول ، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء ، والنصارى قد زادوا عليهم غرورا فهم قد ادّعوا أن المسيح فداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح ، والمسيح ابنه الحقيقي ويخاطبون الله تعالى بلقب الأب.

وقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم غرور اليهود جهادا عظيما ولم يجد ذلك فيهم شيئا فرفضوا دعوته وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة الله وبه تنال تزكية النفس وإصلاحها كما جاهد صلف النصارى وكبرهم ، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادا وظلما وعدوانا بشهادة المؤرخين ، ومع كل هذا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم ليسوا فى حاجة إلى إصلاح دينهم ولا دنياهم كما فعل اليهود مثل ذلك

٨٥

والخلاصة ـ إن هذه الآيات تبين لنا سنة الله فى البشر ، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي قد جاءكم رسولنا الذي بشّرتم به فى كتبكم وأخبركم به أنبياؤكم ، فقد جاء على لسان موسى (أنه سيقيم نبيا من بنى إسماعيل إخوتكم) وعلى لسان عيسى (أنه سيجيئ البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شىء) وفى الإنجيل الرابع إن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين (أحبارا) فسألوا يوحنا عليه السلام : أأنت المسيح؟ قال : لا. أأنت إيليا؟ قال : لا. أأنت النبىّ؟ قال : لا.

هذا الرسول هو محمد بن عبد الله النبي الأمى يبين لكم على فترة من الرسل أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحى ـ جميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمور دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها عليكم نزغات الوثنية ، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم فى الأمور المادية والروحية ، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع.

ويدخل فى ذلك ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم ، ولولا أنه رسول من عند الله لما تسنى له أن يعرف شيئا مما جاء به.

وقد أرسل ـ صلوات الله عليه ـ وقد فشا التغيير والتحريف فى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها ، فاختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب ، وصار ذلك عذرا ظاهرا فى إعراض الخلق عن العبادات ، إذ لهم أن يقولوا : يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ، ولكن كيف نعبدك؟ فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فى ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله :

(أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي إننا إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين ، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين

٨٦

ثم بين أنه أزال هذا العذر فقال :

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية ، وأنها منوطة بالإيمان والأعمال ، وأن الله لا يحابى أحدا.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن دلائل قدرته نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته فى الدنيا ، وفى ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوى الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة فى الدار الآخرة.

روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود اتقوا الله فو الله لتعلمن أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهودا : إنا ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ

٨٧

فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجة على بنى إسرائيل ، وأثبت لهم رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها ، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال غرورهم ، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرا وعنادا ـ قص علينا فى هذه الآيات خبرا من أخبارهم مع موسى عليه السلام ، وهو المنقذ لهم من الرقّ والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال ، لكنهم مع هذا كله كانوا يخالفونه ويعصون أوامره ـ ليعلم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكابرتهم للحق خلق من أخلاقهم ، توارثوها من أسلافهم ، وتأصلت فى طباعهم ، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك ، وصدوا عن هديك ـ وفى هذا من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى ، إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم ، وسنن الاجتماع البشرى.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم لبنى إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له ، لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى : «لَئِنْ

٨٨

شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)» وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد كما قال تعالى «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ».

وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها فى ثلاثة أشياء :

(١) وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا ، أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهرون ومن كان قبلهما ، وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء ، والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع فى المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل ، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما فى التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام.

(٢) أنه جعلهم ملوكا ، والمراد من الملك هنا الحرية فى تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم ، وفى هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى ، يؤيد هذا ما رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم «من كان له بيت وخادم فهو ملك».

ولا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية فى التصرف فى سياسة بيته ، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا فى معيشته مالكا لمسكنه (هذا ملك ـ أو ملك زمانه) يريدون أنه يعيش عيشة الملوك.

(٣) أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، أي عالمى زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك ؛ فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام ، فقد فلق البحر لهم وأهلك عدوهم ، وأورثهم أموالهم ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأظل فوقهم الغمام.

وبعد أن ذكّرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم ـ أمرهم بمجاهدة العدو ، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال :

٨٩

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) المقدسة المطهرة من الوثنية ، لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد ، روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات ، وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية ، والباقي باسم فلسطين ، أو بلاد المقدس ، أو الأرض المقدسة ، أو أرض الميعاد ، لأن الله وعد بها ذرية إبراهيم ، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب.

فقول موسى : كتب الله لكم ، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى فى تلك البلاد المقدسة ، لا أن المراد أنها تكون كلها ملكا لهم لا يزاحمهم فيها أحد ، لأن هذا مخالف للواقع ، ولن يخلف الله وعده ، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح.

ونص هذا الوعد فى سفر التكوين من التوراة إنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال : (لنسلك أعطى هذه الأرض) وجاء فيه أيضا فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : (لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لا نرجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد فى الأرض ، بالظلم والبغي واتباع الأهواء ، فإن فى هذا الرجوع خسرانا لكم ، إذ تخسرون فيه هذه النعم ، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم ، فتحرمون من خيراتها وبركاتها ، وقد جاء فى بعض أوصافها (إنها تفيض لبنا وعسلا) وتعاقبون بالتيه أربعين سنة ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الجبار لغة : الطويل القوىّ المستكبر العاتي المتمرد الذي يجبر غيره

٩٠

على ما يريد من قولهم : نخلة جبارة ، أي طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.

إن سكان تلك البلاد فى ذلك الحين هم بنى عناق ، وكانوا أولى قوة وبأس ، طوال القامة ضخام الأجسام ، وقد ورد فى وصفهم فى الإسرائيليات من الخرافات التي كان يبثها اليهود فى المسلمين ما لا يصدقه العقل ولا ينطبق على ما عرف من سنن الله فى خلقه كقولهم : إن العيون (الجواسيس) الاثنى عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه ، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم فى كسائه ، وفى رواية أخرى إن أحدهم كان يجنى الفاكهة فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضعه فى كمّه مع الفاكهة ـ إلى نحو أولئك من روايات بعيدة عن الصدق ، فالمصريون هم هم ، ونسل الكنعانيين مشاهد معروف لا يمكن أن تكون أصوله على ما وصفوا.

وهذه القصة مبسوطة فى السفر الرابع من أسفار التوراة ففيها : إن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا وأنهم قطعوا فى عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شىء من الرمان والتين ، وقالوا لموسى وهو فى ملأ بنى إسرائيل : قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها فإذا هى بالحقيقة تدرّ لبنا وعسلا وهذا ثمرها ، غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء ، والمدن حصينة عظيمة جدا ، ورأينا ثمّ أيضا بنى عناق ـ إلى أن قال : وقد رأينا ثمّ من الجبابرة ، جبابرة بنى عناق ، فصرنا فى عيوننا كالجراد ، وكذلك كنا فى عيونهم ـ وذكر فى فصل آخر : تذمّر بنى إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض ، وأنهم بكوا وتمنّوا لو أنهم ماتوا فى أرض مصر أو فى البرّيّة وقالوا : لما ذا أتى الرب إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة ، أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر؟ إلخ.

والخلاصة ـ إن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها ، وإنهم لما غلب عليهم من

٩١

الضعف والذل واضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم ، أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد وحاولوا الرجوع إلى مصر وقالوا لموسى : إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها ، وقولهم (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) تأكيد لما فهم مما قبله مشعر بأنه لا علة لا متناعهم إلا ما ذكروه.

وفى إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف وحور العزيمة ، وعلى أنهم لا يريدون أن يأخذوا شيئا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية ، ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم ولا أن يجلبوا لها الخير ، بل يريدون أن يعيشوا بالخوارق والآيات ماداموا فى هذه الحياة ولا شك أن أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال ، وتحيا حياة العز والكرامة ، وتكون ذات تصرف مطلق فى شئونها ، ومن ثمّ لم تفم لها دولة بعد «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) قوله : يخافون أي يخافون الله تعالى ، وقوله : أنعم الله عليهما أي بالطاعة والتوفيق لما يرضيه ، حتى فى حال الخوف والذّعر ، والتوراة وتبعها المفسرون قاطبة على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنة ، وأنهما كانا يحثّان القوم على الطاعة ودخول أرض الجبارين ، ثقة بوعد الله بالنصر وتأييده إياهم.

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ادخلوا عليهم باب المدينة فإذا فعلتم ذلك نصركم الله وأيدكم بروح من عنده ، بعد أن تعملوا ما فى طاقتكم من طاعة ربكم وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم ، إن كنتم مؤمنين بأن وعد الله حق ، وأنه قادر على الوفاء به ، وإنما جزم هذان الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا ، ثقة بنبوّة موسى ، وهو قد أخبرهم بأن الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم ، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدو.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي إنهم أصروا على العناد والتمرد ، ولم تغن عنهم عظات الرجلين

٩٢

شيئا ، فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون ، لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال ، إذ ليسوا من أهله ، فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا هاهنا قاعدون منتظرون.

وهذا القول الذي صدر منهم بدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب ، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشّغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا ، وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه ، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه ـ إنى لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسى وأمر أخى ولا أثق بغيرنا أن يطيعك فى اليسر والعسر والمنشط والمكره (المحبوب والمكروه).

وفى هذا إيماء إلى أنه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما فى الطاعة إذا أمر الله بدخول أرض الجبارين والتصدّى لقتالهم ، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل ، فلما رأى من بلائه معه فى مقاومة فرعون وقومه ، ولسياسة أمور بنى إسرائيل عند مناجاة ربه ، ولما يعلم من تأييد الله له بمثل ما أيده به (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفرق : الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا (يريد نفسه وأخاه) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا ، فتحكم لنا بما نستحق ، وعليهم بما يستحقون ، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا ، وقيل إن المعنى : إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم فى الدنيا.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) التيه : الحيرة ، يقال تاه يتيه : إذا تحيّر ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها ،

٩٣

والتحريم : المنع أي قال الله لموسى مجيبا دعوته : إن الأرض المقدسة محرمة على بنى إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا ، مدة أربعين سنة يتيهون فيها فى الأرض : أي يسيرون فيها فى برّية تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الأسى : الحزن ، يقال أسيت عليه أسى وأسيت له أي فلا تحزن عليهم ، لأنهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهىّ.

جاء فى الفصل الرابع من سفر العدد أن بنى إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم ، سقط موسى وهرون على وجوههما أمامهم ، وأن يوشع وكالب مزّقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع ، فهمّ الشعب برجمهما وطهر مجد الرب لموسى فى خيمة الاجتماع (وقال الرب لموسى : حتى متى يهيننى هذا الشعب؟ حتى متى لا يصدقوننى بجميع الآيات التي عملت فى وسطهم؟ إنى أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك شعبا أكبر وأعظم منهم) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه ، فقبل الرب شفاعته ثم قال (إن جميع الرجال الذين رأوا مجدى وآياتي التي عملتها فى مصر وفى البرية وجربونى الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولى ، لن يروا الأرض التي خلفت لآبائهم ، وجميع الذين أهانونى لا يرونها) واستثنى الرب كالبا فقط ، ثم قال (أنا الرب قد تكلمت ، لأفعلنّ هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علىّ ، فى هذا القفر يفنون ، وفيه يموتون).

وإن فى هذا العقاب الإلهىّ لعبرة لأولى الألباب ، يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ فى مهد الاستعباد تذهب أخلاقها ، ويذهب بأسها ، وتضرب عليها الذلة والمسكنة وتأنس بالمهانة ، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعا خلقية لها ، فإذا خرجوا من بيئتهم ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد حنّوا إلى ما كانوا فيه ، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه ، وهذا شأن البشر فى جميع ما يألفون ، ويجرون عليه من خير وشر.

٩٤

وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بنى إسرائيل فى مصر وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة ، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، وصدق رسوله موسى عليه السلام ، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية ، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلّفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنّون إلى العودة إليها ، وحين غاب عنهم لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليّهم وعبدوه ، وكان الله يعلم أن نفوسهم ميتة لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ فى الوثنية ، ونشأ بعده جيل جديد يعيش فى حرية البداوة وعدل الشريعة.

وعلى هذه السّنّة العادلة أمر الله بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله ، لكنهم أبوا واستكبروا فأخذهم بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته فى الاجتماع.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)

٩٥

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

تفسير المفردات

التلاوة : القراءة ، ولا تكاد تستعمل إلا فى قراءة كلام الله تعالى ، والنبأ : الخبر الذي يهتمّ به لفائدة ومنفعة عظيمة ، والقربان : ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها ، وهو فى الأصل مصدر ، فلهذا يستوى فيه الواحد وغيره ، وبسط اليد إليه : مدها ليقتله ، البوء. اللزوم ، وفى النهاية لابن الأثير : أبوء بنعمتك علىّ ، وأبوء بذنبي : أي ألتزم وأقر ، فطوعت : أي فشجعت وزيّنت ، والسوءة : ما يسوء ظهوره ، والويل : حلول الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية : أي وافضيحتاه ، والأجل : فى الأصل الجناية ، يقال أحل عليهم شرا : أي جنى عليهم جناية ، ثم استعمل فى تعليل الجنايات ، ثم اتّسع فيه فاستعمل فى كل سبب ، والبينات : الآيات الواضحة ، والإسراف : البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه حسد اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم ، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البرهانات الدالة على صدقه وكثرة الآيات المثبتة لنبوته حتى همّ قوم منهم أن يبسطوا أيديهم لقتله وقتل كبار أصحابه ، كما ذكر ذلك فى قوله : «إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» ذكر هنا قصة ابني آدم بيانا لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحملهم على عداوته عريقا فى الآدميين وأثرا من آثار سلفهم كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر ،

٩٦

فلا تعجب من حالهم بعد هذا ، فإن لهم أشباها ونظائر فى البشر كابنى آدم ، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء وقتل الأخ أخاه وبذر تلك البذور السيئة فى بنى آدم إلى قيام الساعة.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) جمهرة العلماء على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه ، وفى سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم ، اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر ، وسماه المفسرون والمؤرخون من المسلمين قابيل وهو القاتل ، واسم الثاني هابيل وهو المقتول ، وقد ذكروا روايات غريبة عنهما لا تعرف إلا من الوحى ، وفى وصف الله تعالى ما قاله «بالحق» دليل على أن ما يلوكه الناس سوى ذلك فباطل.

أي واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وغيرهم من الناس ذلك النبأ العظيم نبأ ابني آدم تلاوة كاشفة للحق ، مظهرة له مبينة لغرائز البشر وطبائعهم ، وهى أنهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضى إلى التحاسد والبغي والقتل ، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله فى عقاب البغاة من الأفراد والجماعات ، ويفقهوا أن بغى اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم فى شىء ، وإنما ذاك للحسد والبغضاء ، فما مثلهم إلا مثل ابني آدم ، إذ حسد شرّهما خيرهما ، فبغى عليه فقتله ، وكان مآله ما بينه الله فى الآيات بعد :

(إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) أي اتل عليهم نبأهما وقت تقديم كل منهما القربان وما تبعه من البغي والعدوان ، فتقبل الله من أحدهما قربانه لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه به ، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص ، ولم يبين لنا سبحانه كيف علما أنه تقبّل من أحدهما دون الآخر ، وربما كان ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام.

روى عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع

٩٧

فقرب شر ما عنده وأرداه ، غير طيّبة به نفسه ، وكان الآخر صاحب غنم وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها ، طيّبة به نفسه ، كما روى عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجىء النار من السماء لتأكله ولا تأكل غير المقبول ، وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق به.

والقرابين عند اليهود أنواع :

(منها) المحرّقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب.

(ومنها) التقدمات من الدقيق والزيت والألبان.

(ومنها) ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى.

والقربان عند النصارى ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول فى اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة.

والقربان عند المسلمين اسم لذبائح النسك كالأضاحى وغيرها.

(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أي إنّ من لم يتقبل منه توعّد أخاه وحلف ليقتلنه ، فأجابه الآخر أحسن جواب.

(قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال إلا ممن يتصف بتقوى الله والخوف من عقابه باجتنابه الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء.

وخلاصة جوابه ـ إننى لم أذنب إليك ذنبا تقتلنى به ، فطن كان الله لم يتقبل قربانك فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك ، فإن الله إنما يتقبل من المتقين ، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له فى العمل ، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك ، قال تعالى : «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» وفى الحديث : «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب».

وفى هذا من العبرة ما كان ينبغى أن يتعظ به المراءون الذين يبغون بما يتصدقون به الصيت واجتلاب الثناء من الناس وحسن الأحدوثة.

٩٨

ثم بين سبحانه ما يجب للناس من احترام الدماء وحفظ الأنفس ولا سيما بين الإخوة فقال :

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي إن مددت يدك لتقتلنى فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسيئة مثلها فذاك لا يتفق مع شمائلى وصفاتى ، إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافى تقوى الله والخوف من عذابه وهذا ما عناه بقوله :

ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال :

(إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إنى أخاف الله وأخشى أن يرانى باسطا يدى إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق ، وهو رب العالمين الذي يغذّيهم بنعمه ، ويربّيهم بفضله وإحسانه ، فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية.

ولا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، وليس فى الكلام ما يدل على عدم الدفاع البتة ، ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل ، وقد روى أحمد والشيخان وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول فى النار ، قيل يا رسول الله هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

ثم قفّى على عظته البالغة ، ونصائحه النافعة بالتذكير بعذاب الآخرة ، من قبل أن الوعظ لا يؤثر فى كل نفس فقال :

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إنى أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمى وإثمك أي بإثم قتلك إياى ، وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك ، وروى هذا عن ابن عباس.

وقيل إن المراد ـ أن القاتل يحمل فى الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئا حتى يأخذ لكل ذى حق حقه فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوى حقه إن كانت له حسنات توازى ذلك ،

٩٩

أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازى ذلك إن كان له آثام وأوزار ، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء فى الجنة أو النار.

(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فتكون بما حملت من الإثمين من أهل النار فى الآخرة جزاء ظلمك ، والنار جزاء كل ظالم.

وقد سلك فى عظته وجوها تأخذ بمجامع اللب ، ويرعوى لها فؤاد المنصف ، فقد تبرأ من كونه سببا فى حرمانه من تقبل القربان ، لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى. ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الله ، ثم إلى تذكيره بأن المعتدى يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه ، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنها مثوى الظالمين.

ثم أبان سبحانه أن المواعظ لم تجد فيه فتيلا ولا قطميرا ، فماذا تغنى الزواجر والعظات فى نفس الحاسد الظالم؟ فقال :

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) أي إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه ، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر فى العاقبة ، والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك ، فحينئذ يقتل إن قدر.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الذين خسروا أنفسهم فى الدنيا والآخرة ، فهو فى الدنيا قد قتل أبر الناس به وهو الأخ التقى الصالح ، وخسر لآخرة لأنه لم يصر أهلا لنعيمها الذي أعد للمتقين.

ثم بين أن الإنسان قد يستفيد من تجارب سواه فقال :

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لما كان الإنسان فى أعماله موكولا إلى كسبه واختياره ، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بنى آدم ـ لم يعرف القاتل كيف يوارى حثه أخيه مقتول الذي يسوؤه أن يراها

١٠٠