تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

سورة المائدة

هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة ، وهى مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو فى مكة ، وقد روى فى الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم إلخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع».

وآياتها مائة وعشرون فى العدّ الكوفي ، ومائة وثنتان وعشرون فى العد الحجازي ، ومائة وثلاث وعشرون فى العدّ البصري.

ووجه التناسب بينها وبين ما قبلها من وجوه :

١) إن سورة النساء اشتملت على عدّة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة والأمان ، والضمنى عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجارة.

٢) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر ، وسورة المائدة حرّمتها البتة فكانت متممة لشىء مما قبلها.

٣) إن معظم سورة المائدة فى محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شىء عن المنافقين والمشركين ، وقد تكرر ذكر ذلك فى سورة النساء وأطيل به فى آخرها.

ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت بيا أيها الناس وفيها الخطاب بذلك فى مواضع ، وهذا أشبه بالتنزيل المكي ، والثانية بيا أيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك فى مواضع ، وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)

٤١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

تفسير المفردات

الوفاء والإيفاء : الإتيان بالشيء وافيا لا نقص فيه ، قال تعالى : «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ» والعقود واحدها عقد ، وهو فى الأصل ضد الحلّ ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض ، ويستعمل فى الأجسام الصّلبة كعقد الحبل وعقد البناء ، ويقال عقد اليمين وعقد النكاح : أي أبرمه كما قال تعالى «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» والبهيمة : ما لا نطق له ، لما فى صوته من الإبهام ، وخص فى العرف بما عدا السباع والطير ، والأنعام : البقر والإبل والغنم. الحرم : جمع حرام ، وهو المحرم بالحج أو العمرة ، وشعائر الله معالم دينه ، وغلب فى مناسك الحج واحدها شعيرة ، والهدى ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هناك ، وهو من النسك ، والقلائد : واحدها قلادة وهو ما يعلق فى العنق ، وكانوا يقلدون الإبل من الهدى بنعل أو حبل أو لحا شجر ليعرف فلا يتعرض له أحد ، آمّين : أي قاصدين ، وفضلا : أي ربحا فى التجارة ورضوانا : أي رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا ، يجرمنكم : من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه : أي يكسبه ويفعله ، وأصل الجرم قطع النمرة من الشجرة ، والشنآن : البغض مطلقا ، أو الذي يصحبه التقزّز من المبغوض.

٤٢

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) روى عن ابن عباس : أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد بها إلى عباده : أي ما أحلّ وما حرم ، وما فرض وما حدّ فى القرآن كله ، لا غدر فيها ولا نكث ، وقال الراغب : العقود ثلاثة أضرب : عقد بين الله وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر.

وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله فى الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى» وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وأساس العقود فى الإسلام هو هذه الجملة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفى بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شىء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرّشوة ونحو ذلك.

ثم شرع يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم فقال :

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحل الله لكم أكل البهيمة من الأنعام وهى الأزواج الثمانية المذكورة فى سورة الأنعام ، وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما ، إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم فى الآية السالفة من هذه السورة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلخ.

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلى الصيد الذي حرمه الله عليكم : أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون فى أرض الحرم ، فلا يحل الصيد لمن كان

٤٣

فى أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان فى خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول فى هذا النسك وبدأ بأعماله كالتّلبية ولبس المخيط.

والخلاصة ـ أحلّت لكم هذه الأشياء غير محلى الاصطياد ولا أكل الصيد فى الإحرام.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الحكم القضاء : أي إن الله جل ثناؤه يقضى فى خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه ، فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) شعائر الله ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدّها لكم.

والمعنى ـ يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاءون بل اعملوا بما بيّنه لكم ، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج فى أشهر الحج.

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم : أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة.

(وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تحلوا الهدى الذي يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى الله ، وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه غصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه.

(وَلَا الْقَلائِدَ) ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى وهى البدن ، وكأنه قال لا تحلوا الهدى مقلّدا ولا غير مقلد ، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدى وأشرفه.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا قتال قاصدى البيت الحرام لزيارته ، فتصدوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.

٤٤

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يطلبون ربحا فى التجارة ورضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا ، لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم فى عاجل دنياهم.

وهذا كلام مع المشركين ، كما روى عن قتادة أنه قال : هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ، وفى رواية أخرى عنه : والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم فى الدنيا وألا يعجّل لهم العقوبة.

ثم صرح بما فهم من قوله : غير محلى الصيد وأنتم حرم فقال :

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم ، فإنما حرم عليكم الصيد فى أرض الحرم وفى حال الإحرام فقط.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي ولا يحملنّكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم ، لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام ، وقد كان المشركون صدّوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية ، فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق.

ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفّى على النهى عن الاعتداء بقوله :

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) البر : التوسع فى فعل الخير ، والتقوى : اتقاء ما يضر صاحبه فى دينه أو دنياه ، والإثم كل ذنب ومعصية ، والعدوان : تجاوز حدود الشرع والعرف فى المعاملة والخروج عن العدل فيها ، وفى الحديث «البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس» رواه مسلم وأصحاب السنن، وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت نعم» وكان قد جاء لأجل ذلك ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما فى نفسه وأجابه فقال :

٤٥

«استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب ، والإثم ما حاك فى النفس وتردّد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك».

والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية فى القرآن ، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات فى دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.

وقد كان المسلمون فى الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم ، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره ، ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا فى حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى).

وقلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله بالسير على سننه التي بينها لكم فى كتابه وفى نظم خلقه ، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته ، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه فى خلقه ، إذ لا محاباة ولا هوادة فى عقابه ، فهو لم يأمر بشىء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شىء إلا إذا كان ضارا ، وكذلك بعدم مراعاة السنن ، لأن لذلك تأثيرا فى خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه فى الغواية وينتهى به إلى سوء العاقبة.

وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء فى بعض الآيات التصريح بذلك ، وفى بعضها التصريح بأحدهما كقوله فى عذاب الأمم فى الدنيا «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

٤٦

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

الإيضاح

هذا شروع فى بيان المحرمات التي أشير إليها فى أول السورة بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهى عشرة أنواع :

(الأول الميتة) ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه : أي بدون فعل فاعل ، ويراد بها فى عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله. والحكمة فى التحريم :

١) استقذار الطباع السليمة لها.

٢) أن فى أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها.

٣) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها.

٤) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد فى إزهاق روحه.

(الثاني الدم) والمراد به الدم المسفوح : أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك ، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا.

وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا ، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر ، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم ، وهى فضلات لفظتها

٤٧

الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم ، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهى تكون فيه أكثر مما تكون فى اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه ، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.

(الثالث لحم الخنزير) لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها ، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث ، إذ أثبت أن له ضررا يأتى من أكله القاذورات ، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهى تنشأ من أكله الفيران الميتة ، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم فى أليافه العضلية ، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل فى بطنه واضطراب فى قلبه ، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره ، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال ، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشر با وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة.

(الرابع ما أهلّ لغير الله به) الإهلال رفع الصوت ، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبىّ إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح ، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى.

وحكمة التحريم فى هذا أنه من عبادة غير الله ، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه ، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.

ويدخل فى ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبى أو ولىّ كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.

٤٨

(الخامس المنخنقة) وقد روى ابن جرير فى تفسيرها أقوالا ؛ فعن السدى أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت ، وعن ابن عباس والضحاك هى التي تختنق فتموت ، وفى رواية عن الضحاك هى الشاة توثق فيقتلها خناقها ، ثم قال : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : هى التي تختنق إما فى وثاقها أو بإدخال رأسها فى الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.

وهى بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهى داخلة فى الميتة ، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب فى الجاهلية كانوا يأكلونها ، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا.

والعبرة فى الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.

(السادس الموقوذة) الوقذ : شدة الضرب ، وشاة وقيذ وموقوذة ، والموقوذة هى التي تقتل بعصا أو بحجارة لاحدّ لها فتموت بلا ذكاة ، وكانوا يأكلونها فى الجاهلية.

والوقذ يحرم فى الإسلام ، لأنه تعذيب للحيوان ، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به ، وهى تدخل فى عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا ، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية ، ويدخل فى الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف (الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمى باليد أو المخذفة أو المقلاع) وقال. إنه لا يفقأ العين ولا ينكى العدوّ ولا يحرز صيدا» ففى هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل.

أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما فى حكمه فإنه يصيد وينكأ ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.

٤٩

(السابع المتردّية) وهى التي تقع من مكان مرتفع كجبل ، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت ، وهى فى حكم الميتة ، لأنه لم يكن للإنسان عمل فى إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.

(الثامن النطيحة) وهى التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل فى أمانتها.

(التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله ، وأكله منه ليس بشرط للتحريم ، إذ يكفى فرسه إياه وقتله فى تحريمه.

وكان العرب فى الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع ، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع ، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله ـ وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع ، وذلك هو ـ ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.

وخلاصة المعنى ـ ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية ، ويكفى فى صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه ، وقد قال على كرم الله وجهه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدا أو رجلا فكلها.

(العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد الأنصاب ، وهى حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.

ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى ، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل

٥٠

لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه ، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.

وخلاصة ما تقدم ـ إن الله تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان ، ما دبّ منها على الأرض ، وما طار فى الهواء ، وما سبح فى البحر ، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.

وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق ، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكن الفارق بينهما ما فى هذا من مظنة الضرر ، وفيه مهانة للنفس ، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك ، ولئلا يقع فى مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع ـ إلى ما فى الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.

ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال :

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام واحدها زلم : وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم ، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره ؛ وكانت الأزلام ثلاثة ، كتب على أحدها «أمرنى ربى» وعلى الثاني «نهانى ربى» والثالث غفل ليس عليه شىء ، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال «حرّك» هذه الأزلام ، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه «أمرنى ربى» مضى لما أراد ، وإن خرج المكتوب عليه «نهانى ربى» أمسك عن ذلك ولم يمض فيه ، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام ، وهو : طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.

٥١

أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب فى الجاهلية.

وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل ، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة ، ويترك ما يترك كذلك ، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة ، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم ، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية ، إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم «أمرنى ربى» الله عز وجل ، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم ، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به.

وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركى الجاهلية ، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى ، يقولون : «افعل» على واحدة «لا تفعل» على الثانية ، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة ، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها ، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.

ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق ، ولم يرد فى هذا نص يجوّز العمل به ، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن ورووا فى ذلك حديث أبى هريرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه الفأل الحسن» وليس هذا من الفأل الحسن ، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.

والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام ، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته فى كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شىء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح.

٥٢

وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة ، وكل ذلك ضلال ، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.

والاستخارة التي وردت بها السنة هى التوجه إلى الله والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات ، فلا يستبين له إن كان الخير فى الإقدام أو فى الترك ، فإذا شرح الله صدره لشىء أمضاه.

وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول : «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إنى أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاقدره لى ويسره لى ثم بارك لى فبه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم أرضنى به» قال ويسمى حاجته.

والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر ، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين ، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى ، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه إلى معصيته.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة ، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما يقر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها

٥٣

وأوهامها ، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم فى زواله ، ولا حاجة معه إلى شىء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

روى البيهقي فى كتاب شعب الإيمان عن ابن عباس فى قوله : «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» يقول يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم ، وهو عبادة الأوثان أبدا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فى اتباع محمد (واخشون) فى عبادة الأوثان وتكذيب محمد.

والخلاصة ـ إن الله أخبر المؤمنين بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم ، وأنه ينبغى لهم ـ وقد بدّلهم بضعفهم قوة ، وبخوفهم أمنا ، وبفقرهم غنى ـ ألّا يخشوا غيره ، وقد عرفوا فضله وإعزازه لهم.

وإجمال المعنى ـ اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه ، لما شاهدوا من فضل الله عليكم ، إذ وفّى بوعده ، وأظهره على الدين كله.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فى الآية بشارات ثلاث فسرها السلف بما سنذكره بعد :

روى عن ابن عباس أنه قال : لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعده حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتى فلم يحج معكم مشرك (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه.

وروى ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا أنه قال : أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه فلا ينقص أبدا ، وقد رضيه فلا يسخط أبدا :

وقال صاحب الكشاف : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك ، وكمل لنا ما نريد. إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم.

٥٤

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» اه.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الاضطرار : حمل الإنسان على ما يضره وإلجاؤه إليه ، والمخمصة : المجاعة تخمص لها البطون : أي تضمر ، والمتجانف للإثم :

المائل المنحرف إليه المختار له ، أي فمن وقع فى ضرورة تناول شىء من المحرمات بسبب مجاعة تخمص لها البطون ويخاف منها الموت أو مبادئه حال كونه غير مختار للإثم ، بأن يأكل منه ما يزيد على ما يمسك به رمقه ، فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضى الله عنهم.

وفى معنى الآية ما جاء فى سورة البقرة «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي فمن اضطر غير طالب له ولا متعدّ ومتجاوز قدر الضرورة فلا إثم عليه.

وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة وهى تقدّر بقدرها ، وذلك نافع للمضطر أدبا وطبعا لأنه يمنعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى أكل شىء مما ذكر فأكل فى مجاعة لا يجد فيها غيره وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة ، فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه عليه ، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.

ولما كان الأصل فى الأشياء الحلّ ، لأن الله سخر لنا ما فى الأرض جميعا لننتفع به ، والمحظور علينا هو ما يضرنا ، ولكن الناس يتصدّون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم ، كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل الميتة والدم ونحوها من الخبائث وحرمت على نفسها بعض الطيبات من الأنعام بخرافات وأوهام باطلة كالبحيرة والسائبة ونحوهما ـ كانت الحاجة ماسة إلى بيان ما يحله الله تعالى مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال :

٥٥

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

تفسير المفردات

الطيب : ضد الخبيث ، والجوارح : واحدها جارحة ، وهى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور ، من الجرح بمعنى الكسب قال تعالى «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» أي ما كسبتم ، ومكلبين من التكليب وهو تعليم الكلاب وإضراؤها بالصيد ، ثم استعمل فى تعليم الجوارح مطلقا ، والمحصنات هنا الحرائر ، وقيل العفيفات عن الزنا ، والأجور : المهور ، والمراد بالمحصنين الأعفّاء عن الزنا ، مسافحين مجاهرين بالزنا ، متخذى أخدان : مسرّين به ، والخدن : الصديق يقع على الذكر والأنثى ، حبط عمله : بطل ثواب عمله.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب فى المدينة جاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية فقرأها».

٥٦

وروى ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟

فنزلت الآيات.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) أي يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام؟

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) الطيبات ما تستطيبها النفوس السليمة الفطرة ، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها فتأكلها باشتهاء وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى به غذاء صالحا ، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضره غالبا ، فما حرمه الله فى الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة للفطرة المعتدلة ، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح والدم المسفوح ، وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهما كه فى أكل القاذورات.

والخلاصة ـ أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاف ، وأحل لكم صيد الجوارح بشرط أن يكون الجارح الذي صاده مما أدّبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه.

أما الطيبات فهى ما عدا المنصوص على تحريمه كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما من شأنه أن يصاد منهما ، فالبحر كل حيوانه يصاد ، والبر يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير ، لحديث ابن عباس «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير» وحديث أبى ثعلبة الخشني «كل ذى ناب من السباع فأكله حرام» رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم ،

٥٧

أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه ؛ فإن أكلت منه فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور ، لأنه مثل فريسة السبع المحرمة فى الآية السالفة.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي وسمّوا عليه عند إرساله كما روى ذلك عن ابن عباس لحديث عدىّ بن حاتم «إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل» والتسمية واجبة عند أبى حنيفة ، ومستحبة عند الشافعي.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي واتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، ولا تقدموا على مخالفته فتأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة ، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على نفسها ، أو تطعموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان ، فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه ، واعلموا أن الله لا يضيع شيئا من أعمالكم ، بل تحاسبون عليها وتجازون فى الدنيا والآخرة ، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة فى وقت واحد ، فما أجدر حسابه أن يكون سريعا!.

وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة. وشدد فى التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة ، لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم ، ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك. بيّن حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم ، لأنهم لما كانوا فى الأصل أهل توحيد ثم سرت إليها نزعات الشرك ممن دخل فى دينهم من المشركين كان هذا مظنّة التشديد فى مؤاكلتهم ومنا كحتهم ، كما شدد فى أكل ذبائح مشركى العرب ونكاح نسائهم ، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين فى ذلك ، بل تحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم فقال :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي اليوم أحلّت لكم الطيبات على سبيل التفصيل بعد أن كانت حلالا بالإجمال ، وصار حكمها مستقرا ثابتا.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الطعام هنا الذبائح لأن غيرها حلال بأصله ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى أي وذبائح أهل الكتاب ممن

٥٨

أوتوا التوراة والإنجيل ودانوا بهما أو بأحدهما حلال لكم دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان.

وروى ابن جرير عن أبى الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله ، قال ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا ، وقال أبو الدرداء ـ وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجيس أهدوه لها. أنأكل منه؟ اللهم عفوا ، إنما هم أهل كتاب ، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم ، وأمره بأكله.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب ، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه.

وفائدة ذكر ذلك بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، وليس كذلك إباحة المناكحة ، فذكره للتميز بين النوعين.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

المحصنات هنا الحرائر : أي وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من المؤمنات ونكاح الحرائر من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم مهورهن.

وتقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه فى الحل ، وتخصيص الحرائر بالذكر للحث على ما هو الأولى منهن ، لا لأن من عداهن لا يحل ، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح الإماء الكتابيات عند أبى حنيفة.

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) المحصنون : الأعفاء عن الزنا ، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة مجاهرين بها ، والمتخذو الأخدان : الذين يأتونها سرّا بالاختصاص بخدن من الأخدان ، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة : أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا والتزمتم به حال كونكم أعفّاء عن الزنا جهرا وسرا ،

٥٩

إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ويجعله فى حصن يمنعه من الفاحشة على أىّ وجه كانت ، فلا يزنى الرجل جهرة ولا سرا باتخاذ صاحبة خاصة به ، ولا تكون المرأة كذلك.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بيّن هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك وبطل ثوابه وخسر فى الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح ، وهو إيمان الإذعان والعمل.

روى ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم : يعنى نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره : ومن يكفر بالإيمان إلخ. فأحل الله تزويجهن على علم اه.

والمغزى من الآية تعظيم شأن ما أحله الله وما حرمه والتغليظ على من خالف ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ

٦٠