تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا ، لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الإسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود إلا فى بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرّون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون ، إذ من شروط الرجم الإسلام.

(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فالله حافظك من ضرهم.

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به ، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وكيف يحكمونك فى قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهى شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها.

وخلاصة ذلك ـ إن أمرهم لمن أعجب العجب ، وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك ، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك.

ولكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاءوك يطلبون حكمك ، رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه ، إذ لم يأت وفق مرادهم.

وقد جاء فى سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها (وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان ، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة ، فتنزع الشر من إسرائيل ، وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة

١٢١

لرجل فوجدها رجل فى المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا ، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ فى المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه ، فتنزع الشر من وسطك).

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

تفسير المفردات

التوراة : الكتاب الذي أنزل على موسى ، والذين هادوا : هم اليهود ، والربانيون : هم المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك ، والأحبار : واحدهم حبر وهو العالم ، بما استحفظوا من كتاب الله أي بما طلب إليهم حفظه منه ، وشهداء

١٢٢

أي رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به : قفّاه به تقفية : جعله يقفو أثره كما قال : «وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» والفاسقون أي الخارجون من حظيرة الدين المتجاوزون لأحكامه وآدابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه عجب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه ، وطلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهواءهم وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون.

ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبنى إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها ، لما عرض لهم من الفساد ، وفى ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه ، وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدى دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) أي إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق ، ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم ، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم ، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال فى أمر دينهم ودنياهم.

(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) أي أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين ـ موسى ومن بعده من أنبياء بنى إسرائيل إلى عيسى عليه السلام ، للذين هادوا أي لليهود خاصة ، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة ، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها.

(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي ويحكم بها الربانيون والأحبار فى الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب

١٢٣

ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه ، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بنى إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها.

ويروى عن أمير المؤمنين على كرم الله وجهه أنه قال : أنا ربانى هذه الأمة ، وأطلق لقب حبر الأمة فى الإسلام على ابن عباس رضى الله عنهما ، وأطلق لقب الرباني على علىّ المرتضى عليه الرحمة.

وقال ابن جرير : الربانيون جمع ربانى وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم ، والأحبار جمع حبر وهو العالم المحكم للشىء اه.

(وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدّثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام فى مسألة الرجم ، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى ، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده ، وطمعا فى صلاتهم إذا هم حابوهم.

ومما كتموه صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به.

ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله فى الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بنى إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيّهم فقال :

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أي وإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سير أسلافهم ـ فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد ، أو طمعا فى منفعة عاجلة منه ، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك ، فإن النفع والضر بيدي.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم

١٢٤

عن الاهتداء بآيات الله وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود فى الزانيين المحصنين بالتحميم ، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعضها بنصف الدية ، والله قد سوى بين الجميع فى الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه ، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به.

قال الرازي نقلا عن عكرمة : إن الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله ـ إنما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقرّ بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله ولكنه تارك له فلا يدخل تحت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير عن أبى صالح قال : الثلاثة الآيات التي فى المائدة ومن لم يحكم بما أنزل الله إلخ. ليس فى الإسلام منها شىء هى فى الكفار ، وعن الشعبي أنه قال :

الثلاث الآيات التي فى المائدة أولها فى هذه الأمة والثانية فى اليهود والثالثة فى النصارى.

وخلاصة المعنى ـ ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به منكرا له كان كافرا لجحوده به واستخفافه بأمره.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي إن الجروح ذوات قصاص يعتبر فى جزائها المساواة بقدر الاستطاعة.

وقد جاء فى التوراة فى الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس ، وعينا بعين ، وسنا بسن ، ويدا بيد ، ورجلا برجل ، وكيّا بكى ، وجرحا بجرح ، ورضّا برضّ).

وجاء فى الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (وإذا أمات أحد إنسانا

١٢٥

فإنه يقتل ، ومن أمات بهيمة يعوّض عنها نفسا بنفس ، وإذا أحدث إنسان فى قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به ، كسر بكسر ، وعين بعين ، وسن بسن ، كما أحدث عيبا فى الإنسان كذلك يحدث فيه)

(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص وعفا عن الجاني فهذا التصدق كفارة له ، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه.

وهذا كقوله تعالى «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تصدق من جسده بشىء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه ، ويقرب منه قوله صلى الله عليه وسلم «أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس».

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي إن كل من أعرض عما أنزل الله من القصاص المبنى على قاعدة العدل والمساواة بين الناس وحكم بغيره فهو من الظالمين ، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر وغمص حق المفضّل عليه وظلمه.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا طريقهم جاريا على هديهم مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله ، فشريعة عيسى عليه السلام هى التوراة ، وقد نقلوا عنه فى أناجيلهم أنه قال ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) وإنما جئت لأتمم ـ أي لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ ، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس.

(وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وأعطيناه الإنجيل حال كونه مشتملا على الهدى ومنقذا من

١٢٦

الضلال فى العقائد والأعمال ، كالتوحيد والتنزيه النافي للوثنية التي هى مصدر الخرافات والأباطيل.

وعلى النور الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه ، وهو مصدق للتوراة التي تقدمته ، أي إنه مشتمل على النص بتصديقها زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعمله.

وقد وصف القرآن الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة ، وبكونه مصدقا لها ، وجعله هدى وموعظة للمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه ، لحرصهم عليه وعنايتهم به :

والسر فى ذلك أن أسرار الشريعة وبيان حكمتها والمقصد منها ، ومعرفة أن بعد هذه التوراة ، وهذا الإنجيل هداية أعم وأشمل وهى التي يجىء بها النبي الأخير (البارقليط) الأعظم.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي وقلنا لهم : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام ، والمراد وأمرناهم بالعمل به ، فهو كقوله فى أهل التوراة «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها».

وخلاصة ذلك ـ زجرهم عن تحريف ما فى الإنجيل وتغييره ، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه.

والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام ، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بشرع ، مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلّت أو كثرت ، لا بما فى التوراة خاصة ، ويشهد لذلك حديث البخاري «أعطى أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به».

وقال الشّهرستانى فى الملل والنحل (جميع بنى إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام ، مكلّفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على عيسى عليه السلام

١٢٧

لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا ولا حراما ، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة).

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

تفسير المفردات

المهيمن على الشيء : القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولى رعايته ، والشّرعة والشريعة : مورد الماء من النهر ونحوه ، وكل ما شرعت فيه من شىء فهو شريعة. ومن ذلك شريعة الإسلام لشروع أهلها فيها ، والمنهاج : السبيل والسنة ، والابتلاء : الاختبار ، استبقوا : ابتدروا وسارعوا ، أن يفتنوك : أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل

١٢٨

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بنى إسرائيل ، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما.

ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله ، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.

الإيضاح

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي وأنزلنا إليك أيها الرسول الكتاب (القرآن الكريم) الذي أكملنا به الدين مشتملا على الحق مقررا له «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» مصدقا لما تقدمه من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ، ومهيمنا وشهيدا عليها بما بيّنه من حقيقة أمرها ، وما كان من حال من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وتحريف كثير مما بقي وتأويله والإعراض عن العمل به.

روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) يعنى أمينا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب.

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية ، وهو أنه رقيب وشهيد عليها ، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام ، دون ما أنزله إليهم ، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أي ولا تتبع ما يريدون ، وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخفف احتماله مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.

١٢٩

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي لكل أمة منكم أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها ، ومنهاجا وطريقا فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاح سرائرهم من قبل أن الشرائع العملية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع وطبائع البشر واستعداداتهم وإن اتفق الرسل جميعا فى أصل الدين ، وهو توحيد الله والإخلاص له فى السر والعلن وإسلام الوجه له.

روى عن قتادة أنه قال فى تفسيرها : أي سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، كى يعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل ؛ وروى عنه أنه قال : الدين واحد والشريعة مختلفة.

ومن هذا يفهم أن الشريعة هى الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.

وهذا هو العرف الجاري الآن إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام.

والخلاصة ـ إن الشريعة اسم للأحكام العملية ، وإنها أخص من كلمة (الدين) وتدخل فى مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعمله. ويخضع له ويتوجه إليه ، مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد تسيرون عليه وتعملون به ، بأن يخلقكم على استعداد واحد ، وأخلاق واحدة ، وطور واحد فى معيشتكم ، فتصلح لكم شريعة واحدة فى كل الأزمان ، فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين كالطير أو كالنحل ـ لفعل ذلك إذ هو داخل تحت قدرته تعالى لا يستعصى عليه.

١٣٠

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم ، يرتقى فى أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء ، فلا تصلح له شريعة واحدة فى كل أطواره وفى سائر جماعاته ، فكانت الشرائع فى أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة ، وفى طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية ، وفى طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبنى على فتح باب الاجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى فى القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولى العلم والرأى.

والخلاصة ـ إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته فى تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة ، بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية.

وإنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة ، وليس لأهلها فيها رأى ولا اجتهاد إذ هى نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد ، فوجب أخذهم بالشدة والصرامة ، وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية ، وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكرى ، ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة فى كتابها ، وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد ، إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه ، ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان ، إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولى الأمر ، فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة ، إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه ، انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام (المذهب القديم) فلما انتقل إلى مصر ورأى عادات أهلها وأطوارهم

١٣١

غير كثيرا من تشريعه إلى ما يناسب الشعب الذي يعيش بين ظهرانيه (المذهب الجديد) وما سرّ هذا إلا ما علمت من خضوع التشريع للزمان والمكان

ثم بين أن الشرائع إنما وضعت للاستباق إلى الخير لتجازى كل نفس بما عملت فقال :

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم فى دينكم ودنياكم ، وابتدروا الخيرات وصالح الأعمال ، انتهازا للفرصة وإحرازا للفضل ، فالسابقون السابقون أولئك المقربون.

وإنكم إلى الله دون غيره ترجعون جميعا فى الحياة الثانية فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من أمور الدين ، ويجازى المحسن على قدر إحسانه ، والمسيء بإساءته ، فاجعلوا الشرائع سببا للتنافس فى الخيرات ، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله ، وأنزلنا إليك فيه : أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لهم وقبول كلامهم ولو لمصلحة فى ذلك كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام ، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل ، واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره.

أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله ابن صوريا وشاس بن قيس من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلّنا نفتنه عن دينه فأتوه ، فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك ، فأبى ذلك وأنزل الله عز وجل فيهم.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ـ إلى قوله : لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اه. يريد أن الحكمة فى إنزال هذه الآية إقرار النبي على ما فعل والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله ، وعدم الانخداع لليهود.

١٣٢

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك ، فما ذاك إلا لأن الله يريد أن يعذبهم فى الحياة الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم ، لأن استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم ، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل إليك ـ كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع ، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم ، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل ، فقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بنى النّضير عنها ، وقتل بنى قريظة.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون فى الكفر مصرّون عليه خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله لعباده.

وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدى والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟) أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله ، فيبغون حكم الجاهلية المبنى على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوىّ على الضعيف؟.

روى «أن بنى النضير تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى خصومة كانت بينهم وبين بنى قريظة وطلب بعضهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفى دية النّضيرى لمكان القوة والضعف فقال عليه السلام القتلى بواء (سواء) فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت الآية».

وخلاصة ذلك ـ توبيخهم والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم ، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجىء به محض الجهل وصريح الهوى.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه ، لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق

١٣٣

من الحاكم ، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه ، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية.

والخلاصة ـ إن مما ينبغى التعجب منه من أحوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ، ويؤثرونه على حكم الله العادل ، وفى الأول تفضيل القوىّ على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته ، وفى الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق ، وبه يستتب الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

تفسير المفردات

الولاية : ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين ، فى قلوبهم مرض : أي إن إيمانهم معتل غير صحيح ، الدائرة : ما يدور به الزمان من المصايب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها ، والفتح : القضاء ، وهو يكون بفتح البلاد وبغير ذلك ، وحبطت أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصيام والجهاد معكم فخسروا أجرها وثوابها.

١٣٤

المعنى الجملي

أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : «جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لى موالى من اليهود كثير عددهم ، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولّى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبىّ : إنى رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من موالاة موالىّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبىّ «يا أبا الحباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه» قال إذن أقبل فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... إلى قوله : وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وروى أرباب السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره فى الباطن ، ومنهم من دخل معه فى الظاهر وهو مع عدوه فى الباطن ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون.

وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به ، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن ، وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة : بنى قينقاع وبنى النضير ، وبنى قريظة ـ فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد ، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر ، ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق ، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبى صلى الله عليه وسلم ، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها ، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.

١٣٥

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) إلخ أي لا يوالى أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعاندين للنبى والمؤمنين ، ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين ، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم.

قال ابن جرير : إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليّا من دون الله ورسوله فهو منهم فى التحزب على الله ورسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان ... إلى أن قال : غير أنه لا شك أن الآية نزلت فى منافق كان يوالى يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك اه.

ثم ذكر علة هذا النهى فقال :

(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض ، ولم يكن للمؤمنين منهم ولى ولا نصير إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين.

ثم توعد من يفعل ذلك فقال :

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين وهم أعداء لكم فإنه فى الحقيقة منهم لا منكم لأنه معهم عليكم ، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق.

قال ابن جرير فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم ، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضى دينه فقد عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اه.

ومن هذا تعلم أنه إذا وقعت الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين فى الدين

١٣٦

لمصالح دنيوية لا تدخل فى النهى الذي فى الآية ، كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لا تفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها ، فمثل هذا لا يكون محظورا.

ثم ذكر العلة والسبب فى الوعيد السابق فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن من يوالى أعداء المؤمنين وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية فى غير موضعها ، والله لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق.

ثم أخبر أن فريقا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال :

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم ولم يصل إلى مرتبة اليقين كعبد الله بن أبىّ وغيره من المنافقين يمتّون إلى اليهود بالولاء والعهود ، ويسارعون فى هذه السبيل التي سلكوها ، وكلما سنحت لهم الفرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ليزيد تمكنا وثباتا.

ثم ذكر السبب الذي حداهم إلى ذلك فقال :

(يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يقولون بألسنتهم : نحن نخشى أن تقع بنا مصيبة من مصايب الدهر فنحتاج إلى نصرتهم لنا ، فعلينا أن نتخذ لنا أيادى عندهم فى السراء ، ننتفع بها إذا مستنا الضراء.

وخلاصة ذلك ـ إنهم يخشون أن تدول الدّولة لليهود أو المشركين على المؤمنين فيحل بهم العقاب ، لأنهم فى شك من نصر الله لنبيه وإظهار دينه على الدين كله ، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها ، وهكذا شأن المنافقين فى كل زمان ومكان ، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدول فى أحشاء هذه الدولة ، وضعف استقلالها فى بلادها بعملهم ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ثم رد على هؤلاء المنافقين وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال :

(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فلعل الله بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتى بالفتح والفصل بين للمؤمنين

١٣٧

ومن يعاديهم من اليهود والنصارى ، أو بأمر من عنده فى هؤلاء المنافقين كفضيحتهم أو الإيقاع بهم ، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه فى أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين ، وتوقع الدوائر عليهم.

والفتح : إما فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله ، وإما فتح بلاد اليهود فى الحجاز كخيبر وغيرها ، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلاؤهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم ، وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب كبنى قريظة ، وإما بإلقاء الرعب فى قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم كبنى النّضير ، وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟) أي ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين ، إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود ، فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرّونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال فى سورة براءة «وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقيّة.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أي ويقول المؤمنون : حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا ، فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوى إيمانهم.

وفى هاتين الآيتين إخبار بالغيب ، وقد صدق الله وعده ، وخذل الكافرين ، وفضح المنافقين ، والعاقبة للمتقين ، ولكن أنّى لهم أن يعتبروا بمثل هذا؟ «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ

١٣٨

فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يعدّ منهم ، وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتولّيهم إياهم ، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق.

بيّن هنا حقيقة دعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل ، فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم ولا يعتد بهم فى نصر الدين وإقامة الحق فالله إنما يقيم دينه بصادقى الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخا فى الحق وقوة على إقامته ، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وولد.

وخبر الغيب أنه سيرتدّ بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ولا يضره ذلك ، لأن الله تعالى يسخّر من ينصره ويحفظه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) روى ابن جرير عن قتادة قال : أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد ـ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس ـ قالوا (أي المرتدون) نصلّى ولا نزكى ، والله لا تغصب أموالنا ، فكلّم أبو بكر فى ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال : لا والله ، لا أفرق بين شىء

١٣٩

جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه ، فبعث الله عصابة مع أبى بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبى الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (الزكاة) صغرة (واحدهم صاغر ، وهو المهين الذليل) أقمياء (واحدهم قمىء ، وهو الذليل الضعيف) فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة محزية أو حرب مجلية ، فاختاروا الخطة المخزية (وكانت أهون عليهم) أن يقروا أن قتلاهم فى النار : وأن قتلى المؤمنين فى الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال اه.

وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، قاله قتادة والضحاك ، ورجح ابن جرير أن الآية نزلت فى قوم أبى موسى الأشعري من أهل اليمن ، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : ـ هم قوم أبى موسى ـ وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبى بكر ، لأن الله وعد بأن يأتى بخير من المرتدين بدلا منهم ، ولم يقل إنهم يقاتلون المرتدين ، ويكفى فى صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين.

وقد ارتد كثير من القبائل فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة منها ثلاث فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم :

(١) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا ، تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن ، فأهلكه الله على يدى فيروز الدّيلمى ، بيّته فقتله ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فسرّ به المسلمون ، وقبض عليه السلام من الغد.

(٢) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، وقد تنبأ مسيلمة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك : أما بعد

١٤٠