تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.

والمعنى ـ إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم ، والله لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد ، لأن الوحى ضرب من الإعلام السريع الخفىّ ، وليس هو بالأمر المشاهد الحسىّ.

وقد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء ، وقصص بعثته فى سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ). الأسباط واحدهم سبط ، وهو ولد الولد ، وأسباط بنى إسرائيل اثنا عشر سبطا ، وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف ، والأسباط فى بنى إسرائيل كالقبائل فى ولد إسماعيل.

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزبور : الكتاب وكل كتاب زبور ، وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داود ، وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة ، وهم الذين ذكرت أسماؤهم فى السور المكية كقوله فى سورة الأنعام فى سياق الكلام عن إبراهيم «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ».

وأجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.

٢١

(وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريقا.

وإنما لم يقص الله علينا خبرهم لأن القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك فى قوله تعالى : «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله : «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» وكل هذا يثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل ، وعلينا أن نعلم أن الله أرسل رسلا فى كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقوله : «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وهذه حقيقة دل عليها الدين السماوىّ ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم ، وكم فيه من حقائق جلّاها للناظرين بجميل بيانه ، واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها ، وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحى العام لأولئك النبيين ، وليس لنا أن نخوض فى معرفة حقيقته ، لأنا لم نكن من أهله ، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضا ، وكيف تحمل ذرّات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري.

والوحى إلى الأنبياء يسمى تكليما ، والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى : «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ».

والحكمة فى الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شىء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار فى الشجرة.

٢٢

والرسول الذي يرسله الله فيوحى بإذنه ما يشاء هو ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي أرسلنا رسلا قد قصصنا بعضهم عليك ولم نقصص بعضا آخر ، ليكونوا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالثواب العظيم ، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم ، إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا إذا هم أجرموا أو كفروا بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» وقال «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً».

والخلاصة ـ إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عند ما يحاسبهم الله ويقضى بعقابهم ، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا فى الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم.

والدّين وضع إلهىّ لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحى وهو موافق لسنن الفطرة فى تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية فى عالم القدس ، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله فى الدنيا والآخرة ، ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان الله عزيزا لا يغالب فى أمر يريده ، ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه ، حكيما فى جميع أفعاله ، وحكمته تقضى هذا الامتناع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصرّوا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم وعدم شهادتهم بها ، وهى واضحة عندهم فى مرتبة المشهود به ، لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان ، فسألوه أن

٢٣

ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه ، ويكون شاهدا له ، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك ، لكن الله يشهد به.

ثم أكد هذه الشهادة فقال :

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والاجتماعية ، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم ، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته ، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به وأنه وحي من عنده.

والخلاصة ـ كأن الله تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشىء ، فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحى وأنت على يقين منه ، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه ، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.

(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا ، لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين ، وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبّتونك ويثبّتون المؤمنين فى القتال كما فى غزوة بدر ، قال تعالى : «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ».

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك ، حيث نصب الدليل ، وأوضح السبيل ، فشهادته أصدق ، وقوله الحق «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا

٢٤

لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

المعنى الجملي

بعد أن أزال سبحانه فى الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة ، فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله ـ أنذر فى هذه الآيات من يصرّ منهم على الكفر ، ويستمر على الإعراض والظلم ، وبيّن لهم سوء العاقبة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) أي إن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وصدوا غيرهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات فى قلوبهم كقولهم : لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى ، وقولهم : إن الله تعالى ذكر فى التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، قد ضلوا ضلالا بعيدا ، لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالّا ويعتقد فى نفسه أنه محق ، ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال ، فهو قد سار فى سبيل الشيطان ، وبعد عن سبيل الله ، فلم يعد يفقه أنها هى الموصلة إلى خير العاقبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك ، وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم ، وسوء سيرتهم ، وصدهم عن الصراط المستقيم ـ

٢٥

ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء ، لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا فى نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرئ قبيح الأفعال ، وتهوى شر الخلال والأعمال ـ ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضادّ ذلك ، من إيمان صحيح وعمل صالح يزكى النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى ، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب ، ومن ثم قال تعالى:

(وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي وليس من شأنه أن يهدى أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم ، فهى الطريق التي ينتهى إليها من دسى نفسه بالكفر والظلم ، وأوغل فى السير فيها طول عمره ، واستمرأ الشرور والمفاسد ، حتى هوت به إلى واد سحيق.

فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقضى لسنن الله وحكمته فى خلق الإنسان.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجرى على اليبس

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء ، والأبد : الزمن الممتد ، وتأبد الشيء : بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا :

أقام به ولم يبرحه ، أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره ، لأنه مقتضى حكمته وسننه ، وليس بالعزيز على قدرته.

وفى هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن الله لا يعبأ بهم ولا يبالى بشأنهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب وردّ شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا وعنادا ـ خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر ، للإيماء إلى أن

٢٦

المحجة قد وضحت ، والحجة قد لزمت ، فلم تبق معذرة فى الإعراض والصدّ عن اتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم ، وقد كان اليهود ينتظرون من الله مسيحا ونبيّا بشر بهما أنبياؤهم ، فقد جاء فى الفصل الأوّل من إنجيل يوحنا ـ أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا (يحي عليه السلام) ليسألوه من هو؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة ـ فسألوه أأنت المسيح؟ قال : لا ، قالوا : أأنت النبي؟ قال : لا ـ من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلى الله عليه وسلم فى التوراة فى سفر تثنية الاشتراع ، وعيسى فى الإنجيل وغيرهما من الأنبياء.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وإن تكفروا فإن الله غنىّ عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم ، فإن له ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا ، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها ، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه فى الأكوان ، وهى عامة فى جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره ، وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة فى جميع أفعاله وأحكامه ، فهو لا يخفى عليه أمركم فى إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم ، ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات ، فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى ، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى ، وآثر الآخرة على الدنيا ، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ، وأعرض عن أمره ونهيه ، وحالف الشيطان وحزبه.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ

٢٧

مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

تفسير المفردات

الغلوّ : مجاوزة الحد ، وكلمته : أي لأنه حدث بكلمة «كن» من غير مادة معتادة ، ألقاها إلى مريم : أي أوصلها وأبلغها إياها ، وروح منه : أي لأنه خلق بنفخ من روح الله ، وهو جبريل ، الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا ، والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هى عليه غرورا وإعجابا بها.

المعنى الجملي

بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم ، وهم قد غلوا فى تحقير عيسى وإهانته وكفروا به ـ ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم ، وهم قد غلوا فى تعظيم عيسى وتقديسه ، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.

٢٨

الإيضاح

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها الله ، فإن الزيادة فى الدين كالنقص فيه ، ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنصّ دينىّ متواتر ، أو برهان عقلىّ قاطع ، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شىء منها.

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) إلى بنى إسرائيل ، وقد أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا ، وزهدهم فى الدنيا ، وحثهم على التقوى ، وبشرهم بمحمد خاتم النبيين ، وأرشدهم إلى الاعتدال فى كل شىء ، فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان.

(وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهو مكوّن بكلمته وأمره الذي هو «كن» من غير وساطة أب ولا نطفة ، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا ، فاستنكرت ذلك ، إذ هى عذراء لم تتزوج فقال لها : «كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فكلمة (كن) هى الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده.

وهو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى : «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وكما قال فى صفات المؤمنين «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

وآية الله فى خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويّا بما نفخ فيه من روحه كآيته فى خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه ، فخلقهما كان بغير السنة العامة فى خلق الناس من ذكر وأنثى «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

وزعم بعض النصارى أن كلمة (منه) تدل على أن عيسى جزء من الله بمعنى أنه ابنه ، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر على بن حسين الواقدي

٢٩

المروزي ذات يوم فقال له : إن فى كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية ، فقرأ له الواقدىّ قوله تعالى «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى ـ فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدىّ بصلة عظيمة.

وقد جاء فى إنجيل متى (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس). وفى إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما فى ذلك ، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحلّ عليك).

وفى هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس ، وبذلك حملت بيحيى ، وكانت عاقرا ، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس.

ومن هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصى عددهم ، وأن عيسى خلق بوساطته ، وكذلك يحيى ، وكان خلقه من وجه آخر ، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد ، وهو الملك المسمى بروح القدس ، أيدهم الله به رجالا ونساء ، فلا يستفاد إذا من قوله : وروح منه ، أنه جزء من الله ، تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي فآمنوا بالله إيمانا يليق به ، وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث ، وأن كل ما فى الكون مخلوق له ، وهو الخالق له ، وأن الأرض فى مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها ، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها ، وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم ، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحى ليعلموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه ، ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة :

٣٠

الآب والابن وروح القدس ، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.

فإن فى هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء ، واتباعا لعقيدة الوثنيين ، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول ، ولا يقبله أولو الألباب.

(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه ، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاءوا بتوحيد الله وتنزيهه ، فإن المسيح الذي سميتموه إلها يقول كما فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات منزه عن التعدد ، فليس له أجزاء ولا أقانيم ، ولا هو مركب ولا متحد بشىء من المخلوقات.

(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم فى المسيح إنه ابنه ، أو إنه هو عينه ، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا.

والتعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به فى كلامهم ، لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه ، وهذا محال على الله تعالى ، وإن أرادوا الابن المجازى لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى فى ذلك ، لأنه قد أطلق فى كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة ، بل له كل ما فى السموات وما فى الأرض خلقا وملكا ، والمسيح من جملتها كما قال تعالى : «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً».

ولا فرق فى هذا بين الملائكة والنبيين ، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب

٣١

ولا أمّ كالملائكة وآدم ، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى ، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى ، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده ، وهو يتصرف فيهم كما يشاء.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه ، فهو غنى عن الولد ، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه فى حياته ، ويقوم مقامه بعد وفاته ، والله تعالى منزه عن كل ذلك.

عقيدة التثليث ـ منشؤها

اعلم أن عقيدة التثليث وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ فى الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرّفوا فيها وأوّلوا ، لتفيد ما ادّعوا ، وبذا هدموا آيات التوحيد ، وقد فصل ذلك علماء أوروبا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ ، فقال البحاثة موريس فى كتابه (الآثار الهندية القديمة) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثى.

وقال مستر فابر فى كتابه (أصل الوثنية) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا ، نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن (بوذه) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال مستر دوان فى كتابه (خرافات التوراة) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس فى تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس ، وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى ـ هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن :

نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شىء ثم الكلمة ومعهما روح القدس ، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية ، فاذهب يا فانى ، يا صاحب الحياة القصيرة ، ثم قال المؤلف : لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (كلمة) هو من أصل وثنى مصرى دخل فى غيره من الديانات المسيحية و (أبولوّ)

٣٢

المدفون فى (دهلى) يدعى الكلمة ، وفى علم اللاهوت الإسكندرى الذي كان يعلمه (بلاتو) قبل المسيح بسنين عدة (الكلمة هى الإله الثاني) ويدعى أيضا ابن الله البكر وقال هيجين فى كتابه (الانكلوسكسون) كان الفرس يسمون (متروسا) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس ، وقال دوان : كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم (أو زمرد مترات. أهرمن). فأوزمرد الخلاق ومترات ابن الله المخلص والوسيط. وأهرمن الملك ، والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر.

وقال صاحب كتاب (ترقى الأفكار الدينية) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا فى تقديم الذبائح يرشّون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات (إشارة إلى الثالوث) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة ، ولهم اعتناء بهذا العدد فى جميع شعائرهم الدينية.

وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها ، ونسخت بها شريعة المسيح التي هى التوراة ، وظلموا المسيح بنسبتها إليه.

والخلاصة ـ إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص ، فحوّلها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوّها ، ونسخوا شريعة سماوية برمّتها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها ، فقد كانت ديانة زهد وتواضع ، فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر ، ديانة نسبوها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث ، بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث ، ولو لم يكن عندهم من النصوص فى هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا فى إنجيله لكفى من قوله عليه السلام (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحيققى

٣٣

وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص واضح فى أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله.

وقال مرقص فى الفصل الثاني عشر من إنجيله : إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه ، أول الوصايا : اسمع يا إسرائيل ، الرب إلهنا رب واحد إلخ ، فقال له الكاتب (جيدا) يا معلّم بالحق قلت ، لأنه واحد وليس آخر سواه ، فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له (لست بعيدا عن ملكوت السموات) ومن هذا النص يعلم أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل (١).

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي لن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبد الله لعلمه بعظمة الله وما يجب له من العبودية والشكر ، ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له.

ومن هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا ، ومنهم روح القدس الذي بنفخة منه خلق المسيح ، ومن ثم استدل بها كثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء. إذ السياق فى ردّ غلوّ النصارى فى المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضى الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقى لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير ، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة ، بل يكون لغوا لأنه يندمج فى الأول بالطريق الأولى.

وقال آخرون إن الآية لا تدل على ذلك لأنها فى معرض تفضيل هؤلاء الملائكة فى عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها ، مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.

__________________

(١) كل ما تقدم فى هذا الفصل مقتبس من تفسير المنار.

٣٤

وأيا كان فالتفاضل فى هذا من الرجم بالغيب ، إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة فى إيمان ولا عمل.

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً). أي ومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى أنه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء ، إذ يحشر الناس جميعا للجزاء ، المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم فى صعيد واحد كما ورد فى الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه فى ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح فى النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام.

(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلما يستحقونه بحسب سنته أيضا ، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا لأن رحمته سبقت غضبه ، فهو يجازى المحسن على إحسانه بالعدل والفضل ، ويجازى المسيء على إساءته بالعدل.

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلى أمورهم ويدبر مصالحهم ، ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب ، إذ لا عاصم اليوم من أمر الله «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

٣٥

المعنى الجملي

بعد أن حاجّ أهل الزيغ والضلال جميعا ، فحاجّ النصارى فى الآية السابقة ، وحاج اليهود فى الآية التي قبلها ، وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفى سور كثيرة غيرها ، وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ظهور الشمس فى رائعة النهار ـ نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلىّ يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات ، ألا وهو النبي الأمى الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية ، ودعوته التشريعية ، فإن أمّيّا لم يتعلم فى مدرسة ولم يعن فى طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمّار قومه ولا معاهد لهوهم ، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعى فى أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدّى له فى كهولته ، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية ، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق ـ لهو برهان على عناية الله به ، وتأييده إياه بوحيه وهديه.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور فى الهداية للناس ، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته ، ثم لا يلبثون أن يشوّهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى.

٣٦

ولما تغلغلت الوثنية فى جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها ، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن ، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شىء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.

هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء ، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».

والخلاصة ـ إن محمدا النبي الأمى صلى الله عليه وسلم كان برهانا على حقية دينه ، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهى ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتى بمثله ، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم فى حاجة إليه فى معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به فى حياتهم الدنيا وينالوا به الخير فى العقبى.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله فى رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم ، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم ، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقال ابن عباس : الرحمة الجنة ، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة فى الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان ، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين ، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم.

وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغى أن يوجد ، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.

٣٧

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

المعنى الجملي

بعد أن تكلم فى أول السورة فى أحكام الأموال ، ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول ، والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين.

روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال : «دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صبّ علىّ فعقلت ، فقلت إنه لا يرثنى إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث (يريد هذه الآية)».

وروى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والنبي صلى الله عليه وسلم فى مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبىّ صلى الله عليه وسلم حذيفة ، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه ، فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدّثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله» قال الخطابي : أنزل الله فى الكلالة آيتين إحداهما فى الشتاء وهى التي فى أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية الأخرى فى الصيف وهى التي فى آخرها وفيها من زيادة البيان ما ليس فى آية الشتاء ، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه.

٣٨

الإيضاح

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الكلالة : ما عدا الوالد والولد من القرابة وقيل الإخوة من الأم ، قال فى لسان العرب ـ وهو المستعمل ـ والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شىء فى التركة من قبل ، وإنما فرض للإخوة من الأم ، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه ، فقل لهم جوابا عما سألتم عنه.

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هلك مات ـ أي إن هلك امرؤ غير ذى ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك.

(وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى ، ولا والد يحجبه عن إرثها ، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض ، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فإن كان من يرث بالأخوّة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة ، وكذا إن كن أكثر من ثنتين كأخوات جابر فقد كن سبعا أو تسعا والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذى فرض فرضه أوّلا.

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي وإن كان من يرثون بالأخوّة كلالة ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هى القاعدة

٣٩

فى كل صنف اجتمع منه أفراد فى درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء فى سدس أمهم لحلولهم محلها ، ولولا ذلك لم يرثوا ، إذ هم ليسوا من عصبة الميت.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي يبين الله لكم أمور دينكم التي من أولها تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا : أي لتتقوا بمعرفتها الضلال فى قسمة التركات وغيرها.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم ، وذلك شأنه فى جميع أفعاله وأحكامه ، فكلها موافقة للحكمة ، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.

٤٠