تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

المعنى الجملي

اعلم أن بين العبد وربه عهدين : عهد الربوبية والإحسان ، وعهد العبودية والطاعة ، وبعد أن وفى له سبحانه بالعهد الأول وبيّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة فى الطعام والنكاح ، طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني ، وهو عهد الطاعة ، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة ، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.

وبعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته ، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا.

أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ. وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية فى الصدر الأول ، فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفّيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته يا عمر» وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو

٦١

ابن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال قلت : فأنتم كيف تصنعون؟ قال : كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث» وروى أحمد والشيخان من حديث أبى هريرة مرفوعا «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا فى عهد النبي يتوضئون لكل صلاة ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبا ، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك.

ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل ، وإنما يجب على من أحدث. وآخر الآية يدل على ذلك ، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما ، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.

والخلاصة ـ إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) الغسل (بالفتح) إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه ، والوجوه واحدها وجه ، وحدّه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا ، والأيدى واحدها يد ، وحدّها فى الوضوء من رءوس الأصابع إلى المرفق ، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.

روى مسلم من حديث أبى هريرة : أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع فى العضد ، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع فى العضد ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع فى الساق ، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع فى الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار فى أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس ، فقال الشافعي يكفى أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة ، وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط ، وأوجب

٦٢

أبو حنيفة مسح الربع ، لأن المسح إنما يكون باليد وهى تستوعب مقدار الربع فى الغالب. ولما روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته» (وهى مقدار الربع).

(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين ، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، ويؤيده عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة فقد روى مسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال : «ويل للأعقاب من النار» وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : تخلّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا.

ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل ، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة ، قال الحسن : حدثنى سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يمسح على الخفين) وقال الحافظ بن حجر : قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير ، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له : تفعل هكذا؟ قال نعم. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.

والخلاصة ـ إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة لمتواترة المبينة للقرآن ، والموافق لحكمة هذه الطهارة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الجنب : لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، والمراد به المضاجعة والوقاع : أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى

٦٣

صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم فى صلاتكم التي قمتم إليها.

وفى معنى الوقاع خروج المنىّ بالاحتلام فهو جنابة شرعا ، وفى الحديث «إنما الماء من الماء» رواه مسلم، أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأى سبب كان خروجه.

ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين ، وكان المسلم لا بدّ له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك فى اليوم ، ولا بد له من الغسل فى كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا ـ بين الرخصة فى تركهما عند المشقة أو العجز ، لأن الدّين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال :

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدرىّ والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أىّ مرض يشقّ فيه استعمال الماء أو يضر.

(أَوْ عَلى سَفَرٍ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه ، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل.

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المكان المنخفض من الأرض ، ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط ، أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف ، ويسمى الحدث الأصغر.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء ، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر.

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاث : المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه.

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم فى هذه الآية وفى غيرها حرجا ما ، أي أدنى ضيق وأقل مشقة ، لأنه تعالى غنىّ

٦٤

عنكم رحيم بكم ، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم.

(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة ؛ فتكونوا أنظف الناس أبدانا ، وأزكاهم نفوسا ، وأصحهم أجسادا ، وأرقاهم أرواحا.

(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح ، والإنسان إنما هو روح وجسد ، والصلاة تطهر الروح وتزكى النفس ، فهى تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعوّد المصلى مراقبة ربه فى السر والعلن ، وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان ، والطهارة التي جعلها الله شرطا للدخول فى الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه ، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها ، فما أجلّ نعم الله على عباده ، وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه ، ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله :

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة.

الحكمة فى شرع الوضوء والغسل

للوضوء والغسل فوائد أهمها :

(١) أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره ، وبذا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى.

إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبى كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل ، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.

(٢) أن النظافة ركن الصحة البدنية ، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة ، ومن ثم نرى الأطباء يشددون فى أيام الأوبئة والأمراض المعدية فى المبالغة فى النظافة ، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا ،

٦٥

لأن دينهم مبنى على المبالغة فى نظافة الأبدان والثياب والأمكنة ، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس.

(٣) تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم ، إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم ، ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لأن يحضر مجالسهم ويشعر فى نفسه بالضعة والهوان.

ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس فى المساجد لعبادة الله تعالى ، روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي بالغ مكلف.

وبعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكّرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى المنشط والمكره (المحبوب ـ والمكروه) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه ، وأطعناك فيه فلا نعصيك فى معروف ، وكل ما جئتنا به فهو معروف.

وكل نبى بعث فى قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة. والدخول فى الدين يعدّ قبولا لهذا العهد ، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم.

واتقوا الله فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أكان فى هذه الآيات أم فى غيرها.

٦٦

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق من نية الوفاء به أو عدم الوفاء ، وما تنطوى عليه السرائر من الإخلاص أو الرياء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

تفسير المفردات

القوّام بالشيء : هو القائم به حق القيام ، شهداء بالقسط : أي شهداء بالعدل بلا محاباة ، ولا يجرمنكم. أي ولا يحملنكم ، والشنآن : العداوة والبغضاء ، الخبير : العالم بالشيء على وجه الدقة والضبط ، والجحيم : النار العظيمة ، وهى هنا دار العذاب وأصحابها هم ملازموها ، بسط إليه يده : بطش به ، وبسط إليه لسانه : شتمه ، والتقوى : هى اتقاء عقاب الله وسخطه بترك معاصيه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة ، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم وتحريم ما يضرهم من الطعام إلا فى حال الضرورة ، ثم ذكر حل طعام

٦٧

أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات ، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم ـ ذكر هنا ما ينبغى أن يكون من معاملتهم سواهم سواء أكانوا أعداء أم أولياء ، ثم ذكر وعده لعباده الذين يعملون الصالحات ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات ، وختمها بذكر المنة الشاملة ، والنعمة الكاملة ، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم ، وكانوا على وشك الإيقاع بهم ، ولكن رحمهم وكبت أعداءهم وردّهم صاغرين ، ليكون الشكر أتم ، والوفاء ألزم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق فى أنفسكم بالإخلاص لله فى كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم ، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد ، وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ابتغاء مرضاة الله.

(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به ، أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه ، وفى كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه ، لأجل قرابة أو مال أو جاه ، ولا تركه لفقر أو مسكنة.

فالعدل هو ميزان الحقوق ، إذ متى وقع الجور فى أمة لأى سبب زالت الثقة من الناس ؛ وانتشرت المفاسد ، وتقطعت روابط المجتمع ، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال ، وتلك سنة الله فى حاضر الأمم وغابرها ، ولكن الناس لا يعتبرون.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم العدل فى أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب حق ، أو الحكم لهم بذلك ؛ فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة ، ويجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما.

٦٨

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها ، لأنه أقرب لتقوى الله والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي ، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوّض نظم المجتمعات ، وتقطع الروابط بين الأفراد ، وتجعل بأسهم بينهم شديدا.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي واتقوا سخطه وعقابه لأنه لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ظاهرها وباطنها ، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل ، وقد مضت سنته فى خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل فى الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد ، وفى الآخرة الخزي يوم الحساب.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال التي يصلح بها أمر العباد فى أنفسهم وفى روابطهم الاجتماعية ، ومن أهمها العدل فيما بينهم وتقوى الله فى جميع أحوالهم.

ثم بين سبحانه ما وعدهم به بعد أن ذكره أوّلا مجملا لتتوجه النفس للسؤال عنه حتى إذا جاء تأكد فى النفس وتقرر هذا الوعد فقال :

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المغفرة الستر ، والإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة فيغلب عليها حب الحق والخير وتكون أهلا للوصول إلى عالم القدس والطهر ، والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح فضلا من الله ورحمة من لدنه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الكفر هنا هو الكفر بالله ورسله ، لا فارق فى ذلك بين كفر بالجميع وكفر بالبعض.

وآيات الله قسمان آياته المنزلة على رسله وآياتها التي أقامها فى الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته ، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه ، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ»

٦٩

أي إن هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب فى نار عظيمة أعدها الله لمن كفر وكذب بآياته ، لأن نفوسهم قد فسدت ، وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم ، فأصبحوا صمّا عميا لا يبصرون.

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ».

روى من طرق عدة أن الآية نزلت فى رجل من قبيلة محارب همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أرسله قومه لذلك وكان بيده سيف وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح وكان منفردا.

روى الحاكم من حديث جابر قال : «قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك؟ قال الله ، فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك؟ قال كن خير آخذ ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال : أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلّى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس».

وفى رواية أخرى «إن السيف الذي كان بيد الأعرابى كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علّقه فى شجرة وقت الراحة ، فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سقط من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك منى؟ قال لا أحد ، ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه».

وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم ، فإنه لو حصل ذلك لكان من المحن الكبرى التي تصيب المسلمين.

وقيل إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإسلام وعظمة شوكة المسلمين ، فبعد أن كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم بدّل الله الحال غير الحال وأصبحوا أعزة بعد الذلة وغالبين بعد أن كانوا مقهورين ، فهو سبحانه يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها

٧٠

سواء فى ذلك حادثة المحاربي وأمثالها ، لأن حفظه لأولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم ، فالنبى صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدّوها لمن بعدهم قولا وعملا.

ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه فى التأسى بالسلف فى القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر.

ومعنى قوله : إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ، أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء من قتل ونهب فكفّ الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما همّوا به.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم ، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته ، لا على أوليائكم وحلفائكم ، لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعى اليأس إذا اشتد البأس ، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم ، ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا همّ أن ييأس تذكر أن الله وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، فتتجدد قوته ويفرّ منه اليأس فينصره الله ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ

٧١

فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

تفسير المفردات

نقيب القوم : من ينقّب عن أحوالهم ويبحث عن شئونهم ، ونقب عليهم نقابة صار نقيبا عليهم ، والتعزيز : النصرة مع التعظيم ، وأقرضتم الله : أي بذلتم المال فوق ما أوجبه عليكم ، والقرض الحسن : ما كان عن طيب نفس. سواء السبيل : وسطه ، لعناهم : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. وقاسية : يابسة غليظة تنبو من قبول الحق.

والتحريف : إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب. والخائنة : الخيانة.

الإغراء. أصله التجريش ، يقال أغرى الشيء بالشيء والمراد هنا تفرق الأهواء الموجب للعداوة والبغضاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكّرنا الله بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ـ بين لنا فى هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى ، وما كان من نقضهم له ، ومن عقابه لهم على ذلك ، فى الدنيا بضروب الذلة والمسكنة ، وفى الآخرة بالخزي والعذاب ، لنعتبر بحالهم ، ونبتعد أن نكون على مثالهم ، وليشرح لنا العلة فى كفرهم

٧٢

بالنبي صلى الله عليه وسلم وسبب تصدّيهم لإيذائه وعداوة أمته ، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة ، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بنى إسرائيل ليعملنّ بما فى التوراة ، وفيها شريعتهم التي اختارها لهم ، ولا يزال هذا الميثاق فى آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام.

(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) نقباء بنى إسرائيل زعماء أسباطهم الاثني عشر ، والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين سيأتى ذكرهم بعد.

روى أنه لما نجابنو إسرائيل بعد هلاك فرعون ، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم إنى جعلتها لكم وطنا ودار هجرة فاخر جوا إليها وجاهدوا من فيها وإنى ناصركم ، وأمر نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل له به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يتحسسون الأخبار فرأوا أجساما قوية وشوكة وقوة فهابوهم ورجعوا وحدّثوا قومهم بما رأوا ، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا نقيبين ، وهما اللدان قال فيهما «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ» الآية ، وسيأتى الكلام فى ذلك بعد.

(وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي وقال الله هذا لموسى ، وهو بلّغه عنه ، ومعنى كونه معهم أنه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق ، وهو راء لأفعالهم ، سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم ، وقادر على مجازاتهم.

(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لئن

٧٣

أدّيتم الصلاة على وجهها ، وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم وآمنتم برسلى الذين أرسلهم إليكم بعد موسى ، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ونصرتموهم معظّمين لهم ، وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغنىّ ملىء وفىّ لا يضيع عليه ، بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه ـ لئن فعلتم كل هذا لأزيلنّ بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم من نفوسكم ، فلا يبقى فيها رجس ولا خبث يقتضى العقاب ، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ ، ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرا من الشرك وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة.

(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه ، أو عمل شيئا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق عليه بالوفاء لى بطاعتي واجتنابه معصيتى ـ فقد أخطأ الطريق الواضح وضلّ الصراط المستقيم الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه وتزكية نفسه ويجعله أهلا لجوار ربه فى تلك الجنات.

ثم بيّن أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فبسبب نقضهم للميثاق الذي أخذ عليهم ـ ومن ذلك الإيمان بمن يرسلون من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم ـ استحقوا مقتنا وغضبنا والبعد من ألطافنا ، فإن نقض الميثاق أفسد فطرتهم ودنس نفوسهم ، وقسّى قلوبهم ، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم ، ولإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم ، وحاولوا قتله وافتخروا بذلك ـ فبكل هذا بعدوا عن رحمة الله ، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر فى النفوس آثارا سيئة ، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة ، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته ، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه ، ولا يراعى القوانين الصحية فهو لا شك سيصاب بالأمراض والأسقام ، ولا يلومنّ حينئذ إلا نفسه ، إذ كان هو السبب فى ذلك بإهماله.

٧٤

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) تحريف الكلم عن مواضعه يكون : إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ، وإما بتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له ، وكل منهما قد وقع فى التوراة وغيرها من كتبهم ، فإن التوراة التي كتبها موسى ، وأخذ العهد والميثاق على بنى إسرائيل بحفظها كما نص على ذلك فى الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ، قد فقدت باتفاق مؤرخى اليهود والنصارى عند سبى البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها ، كما كان المسلمون يستظهرون القرآن فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى ـ فيها خبر كتابته التوراة وأخذه للعهد عليهم بحفظها ، ولا شك أن هذا ليس منها قطعا ، وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت ، أي الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع ، وفى هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح طويل من الزمن كما أن فيها كثيرا من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي.

لكل هذا حقق كثير من مؤرخى الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون ، كتبها عزرا الكاهن بعد أن أذن لبنى إسرائيل بالعودة إلى بلادهم.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) روى عن ابن عباس أنه قال : نسوا الكتاب ؛ وعن مجاهد أنه قال : نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم ، ومرادهما أنهم نسوا طائفة من أصل الكتاب ، وقال بعضهم : نسوا الكتاب بترك العمل به.

وفى الحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عند ما أحرق البابليون هيكلهم وخرّبوا عاصمتهم وسبوا من بقي منهم حيا ، فلما عادت إليهم الحرية جمعوا ما كانوا قد حفظوه من التوراة ووعوه وعملوا به.

وهذا من أعظم الأدلة على أن القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم أثبتها التاريخ بعد بعثة النبي بعدة قرون من موت موسى.

٧٥

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) الخائنة بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة أي إنك أيها النبي لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة ، فلا تظننّ أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم ، فهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان ، فمن نقض عهد الله وميثاقه فكيف يرجى منه وفاء؟ وكيف يطمع منه فى أمانة؟

(إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله فلا تظننّ بهم سوءا ولا تخف منهم خيانة ولا خداعا.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي فاعف عما فرط من هؤلاء القليل ، واصفح عمن أساء منهم ، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى ، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه ، وهذا رأى أبى مسلم ، وقال غيره : فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم ، فانى أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه ، إيثارا للاحسان والفضل على ما يقتضيه العدل.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب عند ما دخل المدينة فى مصالحة اليهود وموادعتهم فعقد معهم العهد على ألا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ولا يمالئوا عليه عدوّا له ، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم ، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قريظة فنقضوا العهد وهمّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فحلّ له قتالهم ، ولكنه رجح السلم على الحرب واكتفى بطردهم من جواره وبعث إليهم «أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنونى وقد أجّلتكم عشرا فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه» فأقاموا يتجهزون أياما ثم ثبّط عزيمتهم عبد الله بن أبىّ وأرسل إليهم ألا تخافوا إن معى ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، وكان رئيسهم المطاع حيىّ بن أخطب

٧٦

شديد العداوة للنبى صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي زين لهم قتله والغدر به فركن إلى قول ابن أبىّ ، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.

فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الحرب فخرج هو والمسلمون للقائهم يحمل لواءه على بن أبى طالب كرم الله وجهه ، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمونهم بالنبل والحجارة ، ولما اشتد عليهم الحصار ورأوا ألا سبيل لهم إلى المقاومة رضوا بالخروج سالمين وعلموا أن وعد ابن أبىّ كان هو الغدر والخيانة بعينها ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفى بإبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها ، وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح ، ورحلوا إلى خيبر.

وهذه الآية نزلت بعد هذا كله لأنها من آخر ما نزل ، ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر ، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا واتباع رسلنا والتصديق بهم ، فسلكوا فى ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين ، فبدلوا دينهم ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا.

(فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا فى تفرقهم فى الدين واتباع أهوائهم ، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى فى هذه الحياة ، ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع أنه من أعمالهم الاختيارية ، لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت فى الخليقة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وسينبئهم الله عند الحساب فى الآخرة بما كانوا صنعوا فى الدنيا من نقض للميثاق ، ونكث للعهد ، وتبديل للكتاب ،

٧٧

وتحريف للأوامر والنواهي ، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون ، ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة.

بين الله فى هذه الآية أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسى اليهود ، وسرّ هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكّرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته ، وكان الذين اتبعوه من العامة ، وأمثلهم حواريّه ، وهم من الصيادين ، وقد اشتد اليهود فى مطاردتهم فى كل مكان ، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدوّن ما حفظوه من الإنجيل إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة عن المسيح ، ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سمّوها الأناجيل كانت كثيرة جدا ، ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعوّل عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح ، عند ما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين فى النصرانية ، وإدخاله إياها فى طور جديد من الوثنية وهى تاريخ ناقص للمسيح ، على ما بها من تعارض وتناقض ، مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ ، وقد أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها (العهد الجديد) على أساس كتب اليهود التي يسمونها كتب العهد العتيق وقد علمت شأنها فيما سلف.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))

٧٨

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى ، كما أخذه على هذه الأمة وأنهم نقضوا العهد والميثاق ، وتركوا ما أمروا به ، وأنهم أضاعوا حظا عظيما مما أوحاه إليهم ولم يقيموا ما حفظوا منه ـ دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي جاء به.

وهذا البيان من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم ، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة فى تضاعيفه.

الإيضاح

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس : أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخفوا أمر الرجم ، وعفا عن كثير مما أخفوه ، فلم يفضحهم ببيانه اه.

أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول الله وخاتم النبيين يبيّن لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها ، وقد أنزلها الله عليكم كحكم رجم الزاني وهو مما حفظتموه من أحكام التوراة كما هو ثابت فى سفر التثنية ، لكنكم لم تلتزموا العمل به وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم عليه وناشده الله فاعترف به ، وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به وحرفوها بالحمل على معان أخرى ، إلى ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء فى التوراة من أخبار الحساب والجزاء فى الآخرة ، وأظهره الرسول لهم ، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى ، إذ هم يعلمون أنه نبىّ أمي لم يطلع على شىء من كتبهم ، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين ، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزات القرآن التي لا ينبغى أن يمترى أحد فيها ، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا

٧٩

يخفونه ، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه ، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره فى الدين ، والفائدة فى ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه ، فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا ومن شأن علماء السوء فى كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم ، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه.

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) النور هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمى بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر ، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات ، كذلك لولا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق ، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها أو نسيانه ، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شىء منه أو تحريفه ، ولظلّوا فى ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.

والكتاب المبين : هو القرآن الكريم وهو بيّن فى نفسه ، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قوله : من اتبع رضوانه ، أي من كان همه من الدين ابتغاء رضوان الله ، لا تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال ، والسلام بمعنى السلامة : أي طرق السلامة من كل مخافة ، وقوله من الظلمات إلى النور : أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وقوله : بإذنه أي بإرادته أو بتوفيقه بالجري على سننه تعالى فى تأثير الأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة فى النفوس وإصلاحها إياها ، وقوله : إلى صراط مستقيم ، أي إلى الدين الحق لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته ؛ أما الباطل فمتعدد الطرق ، وكلها معوجة ملتوية.

وقد ذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد :

١) إن المتبع لما يرضى الله بالإيمان بهذا الكتاب ـ يهديه إلى الطرق التي يسلم بها فى الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك ، فيقوم فى الدنيا بحقوق الله

٨٠