تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

بارزة للعيان ، وفى ذلك دليل على أن الإنسان فى نشأته الأولى كان ساذجا قليل المعرفة ، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل كان يستفيد من كل شىء علما واختبارا وتنمية لمعارفه وعلومه ، وقد أعلمنا الله أن القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب فإنه تعالى بعث غرابا إلى ذلك المكان الذي هو فيه فبحث فى الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شىء كالطعام ونحوه فأحدث حفرة فى الأرض فلما رآها القاتل ـ وقد كان متحيرا فى مواراة أخيه زالت الحيرة واهتدى إلى دفنه فى حفرة مثلها.

وقوله ليريه : أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن ، وحين رأى القاتل الغراب يبحث فى الأرض ، تعلم منه سنة الدفن وظهر له جهله وضعفه ، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنه :

(قالَ : يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي قال وا فضيحتى أقبلى فقد آن الأوان لمجيئك ، فهل بلغ من عجزى أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئا ثم يتبين له خطأ فعله وسوء عاقبته.

روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضى الله عنه «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل».

والندم الذي يكون توبة هو ما يصدر من الشخص خوفا من الله وحسرة على تعدى حدوده ، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : «الندم توبة» رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.

ثم ذكر نتائج هذا القتل فقال :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أي إنه بسبب هذا الجرم الفظيع والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا فرضنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه فى قوله «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها

١٠١

أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)» الآية ، أو قتل نفسا بغير سبب فساد فى الأرض يسلب الأمن والطمأنينة وإهلاك الحرث والنسل كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس ونهب الأموال أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا ، إذ الواحد يمثل النوع ، فمن استحل دمه بغير وجه حق استحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله ، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه ، أي فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم ، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى : «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً».

(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي ومن كان سببا فى حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا ، لأن الباعث له على الإنقاذ ـ وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية والوقوف عند حدود الشرائع ـ دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك لا يدخر وسعا ولا ينى فى ذلك.

وفى الآية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع والابتعاد عن ضرر كل فرد ، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع ، والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له فى الشرع قيام بحق الجميع ، وتقدم أن قلنا إن القرآن كثيرا ما يشير إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين منها إلى المتأخرين ويشير إلى أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم.

وقد وردت قصة ابني آدم فى الفصل الرابع من سفر التكوين ، فقد جاء فيه : إن قايين لما قدّم للرب من ثمرات الأرض وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ قايين وقتل هابيل فسأله الرب عنه : أين هو فأجاب : لا أعلم ، هل أنا حارس لأخى ، فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض ، فندم

١٠٢

واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده ، فقال له الرب لذلك : كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكى لا يقتله كل من وجده ، فخرج قايين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن.

ثم ذكر أن بنى إسرائيل غلاظ القلوب مسرفون فى القتل وفى غيره مع كثرة مجىء الرسل لهم فقال :

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي ولقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم ، المؤكدة لوجوب مراعاته والمحافظة عليه ، فلم تغن عن الكثير منهم شيئا ، إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهّر أخلاقهم ، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم فى أمر القتل يسرفون فيه وفى سائر ضروب البغي والعدوان.

والعبرة فى قصة ابني آدم أن الحسد كان مثار أول جناية فى البشر ، ولا يزال هو أسّ المفاسد فى المجتمع ، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبا أو جنسا أودينا فيبغى عليه ولو بما فيه ضرر له ولهذا المحسود.

والأمة التي تنتشر بين أفرادها هذه الرذيلة قلما تتوجه همم أبنائها إلى ما يرقى شأنهم بين الأمم الأخرى ، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم فى سائر مرافق الحياة فيصبحون عبيدا لسواهم بعد أن كانوا سادة ، وأذلاء بعد أن كانوا فى عزة وبلهنية من العيش.

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

١٠٣

تفسير المفردات

المحاربة : من الحرب ضد السلم ، والسلم : السلامة من الأذى والضرر والآفات والأمن على النفس والمال ، والأصل فى معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال ، وحربية الرجل : ماله الذي يعيش به ، والفساد : ضد الصلاح ، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا يقال إنه فسد ، ومن كان سببا لفساد شىء يقال إنه أفسده ، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك إفساد فى الأرض ، والتقتيل : المبالغة فى القتل بكونه حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولى الدم ، والتصليب المبالغة فى الصلب أو تكرار الصلب كما قال الشافعي : يصلب بعد القتل ثلاثة أيام بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين ، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته ، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف : معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى ، والعكس بالعكس ، والنفي من الأرض : النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين ، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام أو بعض بلاد الكفر ، والخزي : الذل والفضيحة ، ومن قبل أن تقدروا عليهم : أي من قبل التمكن من عقابهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فظاعة جرم القتل ، وشدّد فى تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا ـ ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون فى الأرض حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الآيتين نزلتا فى عكل وعرينة ، فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس «أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة (وجدوها رديئة المناخ) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود

١٠٤

(بضع من الإيل) وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعى النبي واستاقوا الذود ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب فى آثارهم ، فأمر بهم فسّمروا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم» زاد البخاري أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس قال : «بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحثّ على الصدقة وينهى عن المثلة» وروى أبو داود والنسائي عن أبى الزناد «أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار ، عاتبه الله فى ذلك فأنزل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآية.

الإيضاح

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر ـ عقابهم ما سيذكر بعد على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم لكل منها ما يليق بها من العقوبة.

وقد جعل هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله ، لأنه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله ، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه فى حفظ الحقوق كما قال تعالى فى المصرّين على أكل الربا «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ». فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة يعدوا محاربين لله والرسول ، ويجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك كما فعل أبو بكر بمانعى الزكاة ، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله ، ومن رجع منهم فى أي وقت يقبل منه ويكفّ عنه ، وقوله : ويسعون فى الأرض فسادا أي يسعون فيها سعى فساد أي مفسدين لما صلح من أمور الناس فى نظم الاجتماع وأسباب المعاش.

١٠٥

وجمهور العلماء على أن الآية نزلت فى قطاع الطريق من المسلمين كما تدل على ذلك حادثة العرنيّين الذين خدعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم ، وقد عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها».

ويشترط فى المحاربين ثلاثة شروط :

(١) أن يكون معهم سلاح وإلا كانوا غير محاربين.

(٢) أن يكون ذلك فى الصحراء فإن فعلوا ذلك فى البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثّورى وإسحق.

(٣) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال ، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق ، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم ، وكذا إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا ، لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة ، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.

والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة : إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ، وفوض لأولى الأمر الاجتهاد فى تقدير العقوبة بقدر الجريمة.

والحكمة فى عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان وضررها يختلف كذلك ، فمنها القتل ومنها السلب ومنها هتك الأعراض ومنها إهلاك الحرث والنسل أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد ، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا ، أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل ، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.

١٠٦

وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات ، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل ، ويجوز لولى الأمر العفو وترك القصاص ، فغلظ ذلك فى قاطع الطريق وصار القتل حتما لاهوادة فيه ولا يجوز العفو عنه ، وأخذ المال يتعلق به قطع اليد اليمنى فى غير قاطع الطريق فغلظ فى قاطع الطريق بقطع الطرفين ، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع فى حقهم بين القتل والصلب ، لأن بقاءهم مصلوبين فى ممر الطرق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة ، فيصير ذلك زاجرا لغيرهم على الإقدام على مثل هذه المعصية ، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة وهى النفي من الأرض.

ثم بين آثار هذه العقوبة فى الدنيا والآخرة فقال :

(لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ذلك الذي ذكر من عقابهم ـ ذل لهم وفضيحة فى الدنيا ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم بقدر تأثير إفسادهم فى تدنيس نفوسهم وتدسيتها وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.

ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب فقال :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعاثوا فى الأرض فسادا إلا من تابوا إلى الله وأنابوا من قبل أن يتمكن منهم الحاكم ويقدر على عقوبتهم ، فإن توبتهم حينئذ وهم فى قوة ومنعة جديرة بأن تكون توبة خالصة لله صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا ، وإذا فهم قد تركوا الإفساد ومحاربة الله ورسوله ، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب فى الدنيا والعذاب فى الآخرة بل يصيرون لمغفرة الله ورحمته كما قال :

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم ، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم ، وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب فى الدنيا والآخرة ، ولكن تبقى حقوق العباد فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها ، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه ، وهم مخيرون بين القصاص والدية والعفو ،

١٠٧

فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب ، ولم يثبت أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الحاكم.

وإذا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها ، فإذا رأى ولىّ الأمر إسقاط حق مالىّ عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة وجب أن يضمنه من بيت المال (وزارة المالية) :

والخلاصة ـ إن هانين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين فى الأرض الذين يعملون أعمالا مخلّة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض فى بلاد الإسلام معتصمين فى ذلك بقوتهم مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم ، وهو أن يطاردهم الحكام ويتتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ومراعاة المصلحة العامة ، ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما هنا من العقوبات ، بل حكمه حكم سائر المسلمين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدا منهم له ، وغرورا بدينهم ، واعتقادا منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ـ أمر المؤمنين بأن يتقوه ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب.

ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما ، فمن لم ينلهما لا قى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.

١٠٨

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه بعدم مخالفة دينه وشرعه ، والوسيلة ما يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق مثوبته فى دار الكرامة.

روى ابن جرير عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قال حين يسمع النداء ـ الآذان ـ اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، حلت له شفاعتى يوم القيامة» وروى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علىّ فإنه من صلى علىّ صلاة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لى الوسيلة ، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة».

وبهذا يعلم أن هذه الوسيلة هى أعلى منازل الجنة ، فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبى صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة ، وهى دعاء أيضا والجزاء من جنس العمل.

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب ، وسبيل الله هى طريق الحق والخير والفضيلة ، وكل جهد فى الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد فى سبيل الله.

أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها ، وحملها على النّصفة والعدل فى جميع الأحوال ، وجاهدوا أعدائى وأعداءكم ، وأتبعوا أنفسكم فى قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.

١٠٩

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا كل هذا رجاء الفوز والفلاح ، والسعادة فى المعاش والمعاد والخلود فى جنات النعيم.

وبعد فلم يؤثر عن صحابى ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أن الوسيلة هى التقرب إلى الله تعالى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل كالدعاء ونحوه.

ولكن جدّ فى القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين أي جعلهم وسائل إلى الله تعالى والإقسام بهم على الله ، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو بعيدا عنها ، وكثر هذا حتى أصبح الناس يدعون مع الله أصحاب القبور فى الحاجات أو يدعونهم من دون الله ، وألّف بعض الناس كتبا فى هذا ، وزعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعى ، وشغف العامة بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى : «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» وقوله : «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» والذي عليه المعول فى ذلك أن لفظ التوسل يراد به أحد معان ثلاثة :

(١) التوسل إلى الله بطاعته والتقرب إليه بفعل ما يرضيه ، وهذا فرض حتم وبه جاءت الشرائع وهو أس كل دين.

(٢) التوسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه وشفاعته كما كان الصحابة يفعلون ، وهذا كان فى حال حياته ، ولهذا قال عمر بن الخطاب : «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» أي بدعائه وشفاعته ، ويوم القيامة يتوسل المؤمنون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته.

(٣) التوسل بالله بمعنى الإقسام بذاته ، وهذا لم تكن الصحابة تفعله فى الاستسقاء ونحوه لا فى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد مماته لا عند قبره ولا بعيدا عنه ،

١١٠

ولا يعرف هذا فى شىء من الأدعية المأثورة عندهم ، وإنما ينقل شىء من ذلك فى أحاديث ضعيفة أو عمن ليس قوله حجة ، وقد قال أبو حنيفة وأصحابه : إن مثل هذا لا يجوز ، وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك ، ولا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به ، وكرهوا أن يقال بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك لأنه لا حقّ للخلق على الخالق.

والخلاصة ـ إن الوسيلة ما تتقرب به إلى الله وترجو أن تصل به إلى مرضاته ، بما شرّعه لتزكية نفسك ، وقد دل كتاب الله فى جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح هو الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» وقال : «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» وقال : «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

نعم دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه ، وثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه أبى طالب فأنزل الله عليه «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

والخلاصة ـ إن العمدة فى تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته هو إيمانه وعمله لنفسه ، فإذا لم يعمل لنفسه ما شرعه الله وجعله سبب فلاحه ، فهل يكون قد ابتغى إليه الوسيلة بطلب الدعاء من بعض عباده المكرمين أو طلبه منهم بعد موتهم أن يشفعوا له أي يدعوا له.

كلا إن الطلب من الميت غير مشروع فضلا عن أنه لا يعلم إن كان مقبولا أو غير مقبول ، فإن ذلك من أمور الآخرة «وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله ضعيف بل موضوع ، وحديث الأعمى الذي علّمه أن يقول : «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة» لا يصلح حجة فى هذا الباب ، لأنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وقد أمره

١١١

النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : «اللهم شفّعه فىّ» وقد رد الله عليه بصره حين دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم.

والحلف بالمخلوقات حرام عند أبى حنيفة والشافعي ، وحكى إجماع الصحابة على ذلك حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلىّ من أن أحلف بغير الله صادقا ، وقد جاء فى الصحيحين أنه قال : «من كان حالفا فليحلف بالله» وقال : «لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».

والحلف بالأنبياء ليس بيمين عند مالك وأبى حنيفة والشافعي فلا كفارة فيه ، وكذلك الحلف بالمخلوقات المحترمة كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين.

ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة ، لو أن لهم ملك ما فى الأرض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره ؛ فافتدوا بذلك كله يوم القيامة ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم ، بل هو معذبهم عذابا موجعا مؤلما لهم لأن سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم ، والمسلمون يعتقدون أن العمدة فى النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.

١١٢

ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال :

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا ، أي يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه عقاب المحاربين الذين يفسدون فى الأرض ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة ، وأمر بتقوى الله وابتغاء الوسيلة والجهاد فى سبيله ، وهى الأعمال التي يكمل بها الإيمان وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام وتبتعد عن المعاصي.

ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية ، وجمع فى هذه الآيات بين الوازع الداخلى وهو الإيمان والصلاح ، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.

الإيضاح

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا يا ولاة الأمور والقضاة والحكام يده من الكف إلى الرّسغ ، لأن السرقة تحصل بالكف

١١٣

مباشرة ، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن ، والتي تقطع أولا هى اليمنى لأن التناول غالبا يكون بها.

وقد اختلف الأئمة فى المقدار الذي يوجب قطع اليد فى السرقة ، فروى عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية وللحديث «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده» رواه الشيخان عن أبى هريرة، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن القطع لا يكون إلا فى سرقة ربع دينار «ربع مثقال من الذهب» أو ثلاثة دراهم من الفضة لحديث عائشة : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدا» رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ، ولحديث ابن عمر فى الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع فى مجنّ (ترس) ثمنه ثلاثة دراهم.

ويرى الحنفية أن القطع لا يكون إلا فى عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها ، ولا بد أن يكون المال محفوظا فى حرز وإلا فلا قطع.

وتثبت السرقة بالإقرار أو البينة ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الامام.

(جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) النكال من النكل (بالكسر) وهو قيد الدابة ، ونكل عن الشيء امتنع لمانع صرفه عنه ، فالنكال ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا.

أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيّء نكالا وعبرة لغيرهما ، ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي ، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم ، فالأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السّراق ، وحاولوا منعهم من أخذها.

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز فى انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي ، حكيم فى صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق

١١٤

المصلحة ، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح ، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد ، وكأنه يقول : اشتدوا على السرق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تاب من السرّاق ورجع عن السرقة بعد ظلمه لنفسه بعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس وأصلح نفسه وزكاها بأعمال البر فإن الله يقبل توبته ويرجع إليه بالرضا ويغفر له ويرحمه.

ولا يسقط الحد عن التائب ولا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا وإلا فدفع قيمته إن قدر.

ثم بين أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله له ملك السموات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله ، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين فى الأرض ، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا فى التوبة وأصلحوا عملهم ، وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره ، كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله ، ترغيبا لهم فى تزكية أنفسهم ، وهو القادر على كل شىء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شىء فى تدبير ملكه.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ

١١٥

يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

تفسير المفردات

الحزن : ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب ، وسارع إلى الشيء : إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه ، وأسرع فيه : إذا أسرع فيه وهو داخل فيه ، وهنا كان الكفار داخلين فى ظرف الكفر ، محيطا بهم سرادقه ، والفتنة : الاختبار كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل ، والسّحت : ما خبث من المكاسب وحرّم ، فلزم عنه العار وقبح الذكر كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة فى الحكم ، والقسط : العدل.

المعنى الجملي

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن البراء بن عازب قال : «مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهودى محمّما (١) مجلودا ، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم؟ قالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم؟ قال : اللهم لا ، ولولا

__________________

(١) التحميم وضع الحمة أي الفحمة فى الوجه ، وهو كالتسخيم الذي جاء فى الرواية الأخرى من السخام : وهو سواد القدر

١١٦

أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني فى كتابنا الرجم ، ولكنه كثر فى أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شىء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأمر به فرجم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ـ إلى قوله ـ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ)».

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال : «إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال : ما تجدون فى كتابكم؟ قالوا نسخّم وجوههما ويخزيان ، قال : كذبتم إن فيها الرجم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هى تلوح (أي آية الرجم) فقالوا : يا محمد إن فيها الرجم ، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فلقد يجأ عليها (ينحنى) يقيها الحجارة بنفسه».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خاطب الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله يا أيها النبي فى مواضع كثيرة وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا فى هذا الموضع وموضع آخر بعده «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم (يا رسول الله) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه (يا محمد) حتى أنزل الله «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» فكفّوا عن ندائه باسمه.

١١٧

أي لا تهتمّ أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون فى إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة ، فالله يكفيك شرهم ، ويقيك ضرّهم ، وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم.

والنهى عن الحزن وهو أمر طبعى وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهى عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها ، وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى.

ثم بين أن أولئك المسارعين فى الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال :

(مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) الذين هادوا هم اليهود ، والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال ، والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.

أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات الله عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات ، فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه ، ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا ، لأنه مبنى على وقائع معينة ، يزيدون فى روايتها وينقصون ، ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى ، أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا ، ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤساء وذوى الكيد ، ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله : سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، أي سماعون لأجلهم.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه

١١٨

فى مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه ، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما ، إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وارضوا بها ، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به.

وقد سبق أن ذكرنا أنهم جاءوا فسألهم عن حد الزناة فى التوراة فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها ، وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع فإذا هى آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم.

(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي ومن يرد الله أن يختبر فى دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم ، فهم يقبلون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم ، اتباعا لأهؤائهم ومرضاة لرؤسائهم ، وذوى الجاه فيهم :

فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم فى الكفر ، ولا تطمع فى جذبهم إلى الإيمان ، فإنك لا تملك لأحد نفعا ، وإنما عليك البلاغ والبيان ، ولا تخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان ، ولهم الخزي والهوان.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق ، لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة فى نفوس البشر ، من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر ، وألفت الخلاف والضر ، تحيط بها خطيئتها ، وتطبق عليها ظلمتها ، فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي

١١٩

جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها ، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم ، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه فى خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين فى الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل ، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم فى كتمان نصوص كتابهم فى إيجاب الرجم ، وعلوّ الحق على باطلهم ، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز ، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغنى عنهم الانتساب إلى نبىّ لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبى لم يتبعوه وعذابهم فى الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه ، وحقيقة أمره.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى ، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد ، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.

وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت ، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا فى الأحكام ، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات ، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها ، وأزمان انحطاطها.

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم ، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة ، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم فى بلادهم وإن تحاكموا إليهم ، بل هم مخيرون يرجحون فى كل حال ما يرونه من المصلحة.

١٢٠