رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

يواظبون على التسليم عقيب التشهّد الأخير من غير فصل بينه وبين ما قبله من أفعال الصلاة ، ولم يُرَ أحدٌ منهم ولم ينقل عنه خروجه من الصلاة قبل التسليم ، كما لم ينقل خروجه عنها بدونه. فتعيّن القول بجزئيّة التسليم للصلاة ووجوبه فيها إلى أن يقوم دليلٌ على خلافه ) ، انتهى.

وأقول : قد ثبت بالدليل المتضاعف أن ما عُلِمَ قَصْدُ المعصومِ القربةَ به من الأفعال الأصلُ فيه الوجوبُ ما لم يدلّ دليل على استحبابه ، خصوصاً الصلاة ، فقد نقل فيها الإجماع ، وليس هنا محلّ بيانه.

فلا شكّ في أن مواظبته صلى‌الله‌عليه‌وآله على فعل شي‌ء في الصلاة أو كيفيّةٍ في شي‌ء دليلُ الوجوب ، ومِنْ أوضح الأدلّة على وجوب اتّباعه في كلّ ما يواظب على فعله فيها حتّى يقوم دليل على ندبيّته أنه لولاه للزم أن يدلّ على ندبيّته ، وإلّا لزم الإغراء بالقبيح والإيقاع في خطر عدم الامتثال.

وأجابوا عن الاستدلال بأن المصلّي إذا سلّم خرج من العهدة بيقين بالمعارضة بالأصل.

والجواب : أن هذا الأصل مضمحل بالأدلّة القاطعة ، وقد عرفت جملة منها ، فلا يجوز العمل به مع منعها منه هنا ، وبأنه مُعَارَضٌ بأصالة بقاء شغل الذمّة بالعبادة.

وقال فاضل ( المناهج ) : مجيباً عن هذا بأنك خبير بأن الأصل هنا مضمحل إن لم نقل إن الأصلَ في كلّ ما واظب عليه في العبادات وجوبه ، على أنه مُعَارَضٌ بأصالة البقاء في العهدة.

وأجابوا عن بطلان صلاة المسافر بالإتمام مع العلم بوجوب القصر بعدم تسليم أن البطلان بمجرّد الزيادة ، بل إنما تبطل إذا نوى الإتمام من أوّل الصلاة ، باعتبار أنه نوى خلاف المشروع ، أمّا إذا نوى القصر ثمّ زاد سهواً أو بنيّة الزيادة بعد التشهّد الأوّل فلا تبطل عند القائلين بالاستحباب ، وإن أطلقوا فلا بدّ مِنْ أن يحمل عليه كلامهم. وهذا الجواب ذكره في ( المناهج ) ولم يجب عنه.

وجوابه : أن إطلاق الفريقين بطلان صلاة المسافر يُؤذِنُ باتّفاقهم عليه ، وهو يؤذن

٤١

بالإجماع ، ويؤيّده إطلاق الفقهاء في سائر الأعصار أن زيادة الركن مبطلة عمداً وسهواً وعدم معذوريّة الجاهل فيه إلّا ما خرج بدليل ، بل لا يكاد يتحقّق فيه خلاف ، ولو كان إطلاق القائلين بالاستحباب مقيّداً بما ذكر أولاً لصرّحوا به ونصّوا عليه دفعاً للغرر والاشتباه ، وإنما هذا إلزام لهم بما لا يقولون به ، وهو ينافي قولهم بالاستحباب ويناقضه.

وأيضاً ، فلنا منع بطلان الصلاة بنيّة وصلها بصلاة بعد كمالها ، صحيحة كانت أو فاسدة ، مشروعة أو غير مشروعة.

وأيضاً ، فلنا منع وجوب ملاحظة القصر والتمام ، ولو أوجبناهُ منعنا تأثيره في الصحّة ، والبطلان سلّمناه ، لكنّه بسبب آخر للبطلان غير الزيادة.

وأجابوا عن خبر أبي بصير : الناصّ على أن آخر الصلاة التسليم (١)

بأن كون التسليم آخر الصلاة إنما يفيد جزئيّته لها ، وأما وجوبه فلا ، فإنه كثيراً ما يكون جزء العبادة الواجبة مندوباً.

قال فاضل ( المناهج ): ( ولا يخفى اندفاعه ، فإن الخبر متضمّن للأمر بإتمام الصلاة ، وهو دالّ على عدم تمامها قبل التسليم ، ثمّ إطلاق الجزئيّة للعبادة الواجبة يعطي الوجوب ما لم يدلّ [ دليل ] قاطع ) ، انتهى.

قلت : ولنا أن نمنع جزئيّة المستحبّ الواقع بعد كمال جميع واجباتها ، وإنما يكون المندوب جزءاً منها إذا وقع في خلال واجباتها.

وأجابوا عن الأخبار الآمرة بالتسليم بالحمل على الاستحباب.

والجواب : أن حملها عليه إخراجٌ للأمر عن مدلوله الشرعي ، مع كثرتها وتنوّعها ، وهذا غير مقبول إلّا بدليل قاطع يقاومها ، ولا دليل كذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٠ / ١٣٠٧ ، الإستبصار ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ / ١٣٠٢ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١٦ ، أبواب التسليم ، ب ١ ، ح ٤.

٤٢

أدلَّة القول بالاستحباب

ولنذكر الآن أدلّة القائلين بالاستحباب ، فنقول : قال فاضل ( المناهج ): ( قد حصل ممّا حقّقنا أنه إن لم يكن للقائلين بالاستحباب دليلٌ يقوى على معارضة ما ذكرناه من أدلّة الموجبين تعيّن القولُ بالوجوب ، فلنذكر أدلّتهم ليعلم الحال ، استدلّوا أوّلاً : بالأصل ، وقد عرفت اضمحلاله ).

أقول : قد مرّ الكلام في هذا الأصل ، وأنه مرتفع بما تُلي عليك من الأدلّة ، ومعارضٌ بأصالة استصحاب شغل الذمّة اليقيني ، على أن الأصل لو بقي لم يكن مقتضاه الندبيّة ، وإنما يقتضي في الحقيقة عدم التكليف بالتسليم أصلاً.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وثانياً : بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما صلاتنا هذه تكبير ، وقراءة ، وسجود (١) ، ولم يذكر التسليم ، وإنما من أدوات الحصر ، فيدلّ على انحصار أجزائها فيما ذكر.

وهو مردود بأنه لو بقي على ظاهره لم يصحّ ، فإنه أغفل كثيراً من الواجبات كالتشهّد ، والأذكار ، والطمأنينات ، ورفع الرأس ، وإن أمكن إدراج الرفع والطمأنينة في الركوع والسجود فلا شبهة في أنه لا يمكن في التشهّد ، وكذا القيام ، فلا بدّ من أن يحمل على حصر معظم الأجزاء وأشرفها ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (٢) الآية ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجّ عرفة (٣) ، فلا دلالة له على المقصود ).

قلت : ويمكن إرادة جميع الأذكار من لفظ التكبير ، فإنه كثيراً ما يطلق في الأخبار

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٣ : ٩٤ / ١٠٤.

(٢) الأنفال : ٢.

(٣) عوالي اللآلي ٢ : ٩٣ / ٢٤٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥.

٤٣

لفظ التسبيح والتنزيه والتكبير ، بل ولفظ الاستغفار أيضاً على مطلق ذكر الله ، كما لا يخفى على المتتبّع المتدبّر ، فيدخل فيه ذكر الركوع والسجود والتشهّد والتسليم ، فإنه دعاء وعبادة ، وكذا الركوع في لفظ السجود تغليباً ، فإنه شائعٌ في اللغة.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وثالثاً : بأنه لو كان واجباً وجزءاً من الصلاة لكان تبطل الصلاة بتخلّل الحدث بينه وبين ما قبله ، والتالي باطل ؛ لصحيحة زرارة : عن الباقر عليه‌السلام : سألته عن رجل يصلّي ثمّ يجلس فيُحدِث قبل أن يسلّم قال عليه‌السلام تمّت صلاته (١) ).

قلت : ومثله خبر [ الحسن (٢) ] بن الجهم : سألت أبا الحسن عليه‌السلام : عن رجل صلّى الظهر أو العصر فأحدث حين جلس في الرابعة ، فقال إن كان قال : أشهد أن لا إله إلّا اللهُ وأن محمّداً رسولُ الله ، فلا يعيد ، وإن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد (٣) ، وشبههما من الأخبار المتضمّنة لصحّة الصلاة مع الخروج بغير السلام من سائر المنافيات.

( ورابعاً : بما رواه الحلبي : عن الصادق عليه‌السلام : إذا التفتَّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً ، وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد (٤).

وخامساً : برواية غالب بن عثمان : عن الصادق عليه‌السلام : سألته عن الرجل يصلّي المكتوبة فيقضي صلاته ويتشهّد ، ثمّ ينام قبل أن يسلّم قال عليه‌السلام تمّت صلاته (٥).

وسادساً : بصحيحة زرارة : عن الباقر : صلوات الله عليه ـ : سألته عن رجل صلّى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٠ / ١٣٠٦ ، الإستبصار ١ : ٣٤٥ / ١٣٠١ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٤ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٢.

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( الحسين ) ، وقد ورد بلفظ ( الحسين بن الجهم ) في رجال الطوسي : ٣٧٣ ، وخلاصة الأقوال : ١١٣.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥ / ١٤٦٧ ، الإستبصار ١ : ٤٠١ / ١٥٣١ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، أبواب قواطع الصلاة ، ب ١ ، ح ٦.

(٤) الكافي ٣ : ٣٦٥ / ١ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٣ / ١٣٢٢ ، الإستبصار ١ : ٤٠٥ / ١٥٤٧ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٤ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٤.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٩ / ١٣٠٤ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٥ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٦.

٤٤

خمساً ، فقال عليه‌السلام إنْ كان جلس في الرابعة قدر التشهّد فقد تمّت صلاته (١). ونحوها روايات.

وسابعاً : بصحيح محمّد بن مسلم : عن الصادق عليه‌السلام : قال إذا استويت جالساً ، فقل : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبدُه ورسوله ، ثمّ تنصرف (٢).

وثامناً : بصحيح علي بن جعفر : عن أخيه موسى : صلوات الله عليه ـ : سألته عن الرجل يكون خلف الإمام فيطوّل الإمام التشهّد فيأخذ الرجل البول ، أو يتخوّف على شي‌ء يفوت ، أو يعرض له وجع ، كيف يصنع؟ قال يتشهّد هو وينصرف ، ويدع الإمام (٣).

وتاسعاً : بموثّقة يونس : قلت لأبي الحسن : صلوات الله عليه ـ : صلّيت بقومٍ صلاةً فقعدت للتشهّد ، ثمّ قمت ونسيت أن أُسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّمت علينا ، فقال عليه‌السلام ألم تسلِّم وأنت جالس؟.

قلت : بلى قال لا بأس عليك ، ولو نسيت حين قالوا ذلك استقبلتهم بوجهك فقلت : السلام عليكم (٤).

وعاشراً : بصحيحة زرارة : والفضيل : ومحمّد بن مسلم : عن الباقر : صلوات الله عليه أنه قال إذا فرغ رجل من الشهادتين فقد مضت صلاته ، فإن كان مستعجلاً في أمرٍ يخاف أن يفوته فسلَّم وانصرف أجزأه (٥).

وحادي عشر : بصحيحة معاوية بن عمّار : قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا فرغت من

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٤ / ٧٦٦ ، الإستبصار ١ : ٣٧٧ / ١٤٣١ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٩ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ١٠١ / ٣٧٩ ، الإستبصار ١ : ٣٤٢ / ١٢٨٩ ، وسائل الشيعة ٦ : ٣٩٧ ، أبواب التشهّد ، ب ٤ ، ح ٤.

(٣) الفقيه ١ : ٣٦١ / ١١٩١ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٩ / ١٤٤٦ ، وسائل الشيعة ٨ : ٤١٣ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٦٤ ، ح ٢.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٨ / ١٤٤٢ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٥ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٥.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٧ / ١٢٩٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١٦ ، أبواب التسليم ، ب ١ ، ح ٥.

٤٥

طوافك فأتِ مقام إبراهيم عليه‌السلام : ، فصلِّ ركعتين واجعلهما قياماً (١) ، واقرأ في الأُولى منهما : سورة التوحيد قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (٢) ، وفي الثانية : قُلْ يَا أيّهَا الكَافِرُونَ (٣) ، ثمّ تشهّد واحمد الله واثنِ عليه ، وصلِّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، واسأله أن يتقبّل منك (٤) ، فإن الإعراض عن ذكر التسليم في هذا المقام قرينة على عدم وجوبه. وإذ لا يجب في ركعتي الطواف لا يجب في غيرهما ؛ لعدم القول بالفصل.

وثاني عشر : برواية الحلبي : عن الصادق عليه‌السلام : قال إذا نسي أن يسلِّم خلف الإمام أجزأه تسليمُ الإمام (٥).

هذا غاية ما استخرجه فاضل ( المناهج ) : من الاستدلال لهم ، وقد أحاط بما لم يُحط به غيره.

ردّ أدلَّة القول بالاستحباب

والجواب عنه إجمالاً إمّا بالحمل على التقيّة ، فإن غاية ما ذكر كلّه صحّة الخروج من الصلاة بغير التسليم ، وهذا لم يقل به أحد من الأُمّة غير أبي حنيفة (٦) : ، وقد نصّ الشهيد : في ( الذكرى ) على : ( أنه لم يقل به أحدٌ من الأصحاب ) (٧) ، فسبيله سبيل ما جاء في بعض الأخبار من أن آخر الصلاة السجود ، مثل خبر زرارة : عن الصادق : سلام الله عليه في الرجل يحدث بعد ما يرفع رأسه من السجود الأخير ، فقال عليه‌السلام تمّت صلاته ، وإنما التشهّد سنّة في الصلاة ، فيتوضّأ ويجلس مكانه ، أو مكاناً نظيفاً فيتشهّد (٨) ، وبمعناه عدّة أخبار.

__________________

(١) في المصدر : « واجعله إماماً » بدل : « واجعلهما قياماً ».

(٢) الإخلاص : ١.

(٣) الكافرون : ١.

(٤) الكافي ٤ : ٤٢٣ / ١ ، وسائل الشيعة ١٣ : ٤٢٣ ، أبواب الطواف ، ب ٧١ ، ح ٣.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ : ١٦٠ / ٦٢٧ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٤ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٣.

(٦) المجموع شرح المهذب ٣ : ٤٦٢.

(٧) الذكرى : ٢٠٧ ( حجريّ ).

(٨) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٨ / ١٣٠٠ ، الإستبصار ١ : ٣٤٢ / ١٢٩٠ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١١ ، أبواب التشهّد ، ب ١٣ ، ح ٢.

٤٦

وإمّا بالطرح ؛ لعدم مقاومتها لما ذكرناه من الأدلّة القاطعة ، ولاستلزامها ما لم يقل به أحدٌ من الأصحاب من صحّة الخروج بغير التسليم ، ومشروعيّة صلاة الاحتياط وسجدتي السهو قبله ، ولتشابه ظاهرها ، ولقبولها التأويل ، كلّها أو جلّها.

وأمّا تفصيلاً : فبما أجاب به فاضل ( المناهج ) : شكر الله سعيه ، ولننقل عبارته بلفظها ، وعسى أن نزيد عليها من البيان ما نرجو من الله أن يفيضه علينا من خزائن رحمته ونوره.

قال رحمه‌الله : ( ونحن نقول في الجواب عن هذه الأحاديث : إنها ومثلها لا بدّ من أن تحمل على التقيّة إن لم يكن لها نحوٌ آخر من التأويل ؛ لأنه كما يحصل الجمع بين الأدلّة بحمل ما دلّ على الوجوب ظاهراً على الاستحباب ، كذلك يحصل الجمع بحمل ما دلّ على عدم الوجوب على التقيّة ، وهذا هو المتعيّن ؛ لأنه أحوط للدين.

على أنا نقول بعد تسليم العمل بمضامين هذه الأخبار في الرواية الأُولى :

أوّلاً : أن ظاهرها أن صدور الحدث عنه بعد الصلاة ، كما لا يخفى ، فلا بدّ من أن يُراد بالتسليم المندوب منه ؛ لأنه الذي تتمّ الصلاة قبله.

وثانياً : أنه يحتمل أن يكون : ( يحدّث ) بالتشديد من التحديث ، ويؤيّده لفظ ( يجلس ) كما هو ظاهر عند مَنْ له معرفة بأطوار المحاورات ، فيحمل على أنه تكلّم ناسياً بما لا يخرجه عن حدّ المصلّي ، ولا شبهة في أنه لا يخلّ بالصلاة.

والمراد بتمام صلاته ليس أنه تمّ قبل السلام ، بل السؤال حينئذٍ قرينة على أن المراد به أنه لا تختلّ صلاته بهذا السبب ، بل في قول السائل : ( قبل أن يسلّم ) دلالة على أنه سلّم بعده ، وحينئذٍ فلا شكّ في أنه تمّت صلاته ).

أقول : يريد بالرواية صحيحة زرارة : عن الباقر عليه‌السلام (١) : ، ولعلّه أراد بالتسليم المندوب هو الصيغة المؤخّرة من الصيغتين بناءً على القول بالتخيير ، والواجب ما

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٤ / ٧٦٦ ، الإستبصار ١ : ٣٧٧ / ١٤٣١ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٩ ، ح ٤.

٤٧

تبدأ به منهما. أو يريد به التسليم الثاني للإمام أو المأموم بناءً على القول به.

ويحتمل أن يراد بالتسليم المسبوق بالحدث هو التعقيب مجازاً لاشتماله عليه ، والقرينة ما في السؤال من فرض الحدث في جلوس معطوف على : ( يصلّي ) بـ ( ثمّ ) الدالّة على تعقّبه وتراخيه عن الصلاة.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وفي رواية الحلبي (١) :

أوّلاً : أنها إن حملت على ما حملتم عليه من المعنى ، فكما لها دلالة على عدم جزئيّة السلام ، فكذلك لها دلالة من جهة أُخرى على جزئيّته ، فإن هذا الحكم متعلّق بالالتفات في الصلاة ، فدلّ على أنه ما لم يسلّم فهو داخل في الصلاة ، إلّا أن يعطف الشرطيّة الثانية على مجموع الشرطيّة الأُولى.

وثانياً : أنه يمكن أن يُقرأ فلا تعد بفتح التاء فسكون العين فضمّ الدال ، من ( عداه يعدوه ) إذا تجاوزه ، أو بفتح التاء والعين والدال المشدّدة ، من التعدّي ، أي وإن كنت قد تشهّدت فلا تَعَدّ إلى التسليم فإنه لا ينفعك ، بل عليك الاستئناف.

وثالثاً : أنه يمكن أن يكون إن في قوله وإن كنت وصليّة ، أي تجب الإعادة وإن تمّ التشهّد ، وإنما نفى التسليم.

وقوله فلا تعد يحتمل حينئذٍ تلكما الوجهين مع الوجه الذي قرأه المستدلّ ، وأن يكون بفتح التاء وضمّ العين ، من العود ، أي فلا تَعُد هذا الفعل المبطل للصلاة ، أو لا تَعدُ إليه ، أو لا تَعد ، أو لا تتعدّ عن حدود الله ، أو عمّا قلناه لك ، أو إلى ما بقي من أجزاء الصلاة بعد الالتفات فإنه لا ينفعك ، وعلى جميع هذه التقادير تكون ( الفاء ) في فلا تعد للتفريع لا للمُجَازَاة ).

قلت : ويحتمل احتمالاً ظاهراً قويّاً أنه أراد بقبليّة الفراغ كون الالتفات قبل التسليم ؛ إذ لا يتحقّق الفراغ منها قبله ، لما عرفت من عدم القائل بصحّة الخروج

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٦٥ / ١٠ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٣ / ١٣٢٢ ، الإستبصار ١ : ٤٠٥ / ١٥٤٧ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٤ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٤.

٤٨

بغيره ، فلا يتحقّق الحكم عند الأصحاب بالفراغ منها قبله وإن لزم القائلين بالاستحباب ذلك ، لكن الظاهر أنه لا يقول به أحدٌ منهم.

ويحتمل أيضاً دخول التسليم في لفظ التشهّد مَجازاً ، فإن الأصحاب بل والأخبار يطلقون التشهّد عليه مع جميع مندوباته ومتعلّقاته ، كما لا يخفى على المستوضح ، فلا يكون في الخبر دلالة على المدّعى لما فيه من هذه الاحتمالات.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وفي صحيحة زرارة (١) : أن من الظاهر أن مَنْ جلس بقدر التشهّد الكامل كان قد جلس بقدر أدنى ما يجب في التشهّد مع التسليم ، فليكن هو المراد ، ولم يصرّح به لظهور ذلك. ثمّ كما أن التشهّد الذي يأتي به عقيب الخامسة يكون مجزئاً كذلك التسليم ، وكما أن هذا الفصل لا يضرّه فكذا لا يضرّه أيضاً ، أو كما أن الجلوس بقدر التشهّد مجزيٌ عن الإتيان به كذا الجلوس بقدر التسليم يجزئُ عنه.

وفي صحيحة محمّد بن مسلم (٢) : أنه لا دلالة لها أصلاً على عدم وجوب التسليم ، فإن الانصراف أعمّ من الانصراف للتسليم ، ومنه بدونه ، ولمّا لم يكن المقصود هنا الإتيان بالتشهّد لم يصرّح بالتسليم.

والحاصل أن الانصراف لا معنى له إلّا الخروج عن الصلاة ، وأمّا دلالته على الخروج من غير أن يكون له سبب من التسليم ونحوه فلا ، بل ربّما أُطلِقَ الانصرافُ على التسليم في كثير من الأخبار ، كما لا يخفى على مَنْ تتبّعها ، وكذا الكلام في صحيحة عليّ بن جعفر (٣) ).

قلت : ويمكن حمل التشهّد فيها على ما يعمّ التسليم ، كما تقدّم في غيرها.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٤ / ٧٦٦ ، الإستبصار ١ : ٣٧٧ / ١٤٣١ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٩ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ١٠١ / ٣٧٩ ، الإستبصار ١ : ٣٤٢ / ١٢٨٩ ، وسائل الشيعة ٦ : ٣٩٧ ، أبواب التشهّد ، ب ٤ ، ح ٤.

(٣) الفقيه ١ : ٣٦١ / ١١٩١ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٩ / ١٤٤٦ ، وسائل الشيعة ٨ : ٤١٣ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٦٤ ، ح ٢.

٤٩

ومن الأخبار التي أُطلِقَ فيها الانصراف على التسليم خبر أبي بصير : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل إذا سها في القنوت قنت بعد ما ينصرف وهو جالس (١).

ومثلها كثير ، كما يظهر بمراجعة أبواب السهو والشكّ والتعقيبات ، فراجع. وقد ترك خبر غالب بن عثمان (٢).

والجواب عنها بحمل التسليم فيها على ما يقع في التعقيب بعد السلام المُخْرِج من الصلاة ، والتشهّد على ما يعمّ التسليم الواجب.

والقرينة قول السائل : ( سألته عن الرجل يصلّي المكتوبة ، فيقضي صلاته ويتشهّد ، ثمّ ينام ) ، فإنه فرض النوم بعد قضاء الصلاة ، ولا معنى له إلّا فراغها بالكلّيّة ، وعطف التشهّد عليه من باب عطف الجزء على الكلّ مبالغة في بيان استكمال الصلاة ، ولذا عطفه بالواو.

وفي عطفه النوم على قضاء الصلاة والتشهّد بـ ( ثمّ ) قرينة أيضاً على ذلك ، ومبالغة في بيان وقوع النوم بعد كمال الصلاة ، وهذا بحمد الله جليّ.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وفي موثّقة يونس بن يعقوب (٣) : أنه لا دلالة لها على المدّعى أيضاً ، فإنه إنما قيل فيها ولو نسيت حين قالوا ذلك ، ولا يفهم منه إلّا إنه نسي حينئذٍ أنه هل سلّم أم لا؟ وهو شكّ في الفعل بعد انقضائه ، ومن المعلوم عدم اعتباره وتماميّة الفعل ).

قلت : وما أظهر احتمال أن يراد بالتسليم فيها التسليم المندوب حال التفرّق ، فإنه قال : ( قعدت للتشهّد ، ثمّ قمت ونسيت أن أُسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّمت علينا ) أي تسليم التفرّق ، حيث عطف القيام على التشهّد بـ ( ثمّ ) الدالّة على التراخي.

ويحمل التشهّد على ما يعمّ التسليم ، فإنه متعارف ومجاز شائع ، ولذا خاطبوه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ١٦٠ ـ ١٦١ / ٦٣١ ، وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٧ ، أبواب القنوت ، ب ١٦ ، ح ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٩ / ١٣٠٤ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٥ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٦.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٨ / ١٤٤٢ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٥ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٥.

٥٠

وعاتبوه بما هو خارج عن الصلاة ، بل بما تعمّده مبطل لها ، ولو كان المقصود تسليم الصلاة لَتَحرّجوا من ذلك ، كما لا يخفى من طريقة المسلمين.

وأيضاً الجواب فيه قرينة على ذلك ، بل دلالة ، حيث سأله قال ألم تسلّم وأنت جالس؟. قلت : بلى. فإن ظاهره إنما عنى به تسليم الصلاة ، فأجابه بأن تسليم الصلاة يكفي عن تسليم التفرّق ، حيث إنه واقع حال مفارقته لهم ومفارقتهم له في الصلاة ومُؤذن بذلك ، فلا دلالة للخبر على المدّعى بوجه.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وفي صحيحة الفضيل : وزرارة : ومحمّد بن مسلم (١) : إنا وإن أوجبنا التسليم وجعلناه جزءاً من الصلاة لكن جزئيّته ليست كجزئيّة سائر الأجزاء ، فإنه في الأصل إنما وضع للخروج منها ، فمضيّ الصلاة حين الفراغ من الشهادتين إشارة إلى هذا المعنى ).

قلت : بل هو جزءٌ كالتحريمة حقيقة ؛ لأنه جعل في مقابلتها ، والخبر ظاهر في وجوبه ، فإنه رتّب فيه الانصراف والإجزاء عليه. ومعنى قوله عليه‌السلام إذا فرغ من الشهادتين فقد مضت صلاته أنه لم يبقَ من واجبات صلاته إلّا التسليم المُخْرِج ، وأدخل الصلاة على محمّد وآله في لفظ الشهادتين ؛ للإجماع والنصّ (٢) بوجوبها ، وأن ما بينهما من المأثور مستحبّ ، ولذا قال بعد قوله مضت صلاته ـ فإنْ كان مستعجلاً في أمر يخاف فوته فسلَّم وانصرف أجزأه (٣) ، فعقّب التسليم للشهادتين ، فهي قد دلّهم فيها (٤) على أن ما يقال بعد التشهّد والصلاة على محمّد : وآله وقبل التسليم مستحبّ.

وأيضاً ، إن سُلّم دلالتها على استحباب التسليم قلنا : دلّ ظاهرها أيضاً على استحباب الصلاة على محمّد : وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا لا يقول به أحد من الفرقة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٧ / ١٢٩٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١٦ ، أبواب التسليم ، ب ١ ، ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، أبواب التشهّد ، ب ١٠.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣١٧ / ١٢٩٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١٦ ، أبواب التسليم ، ب ١ ، ح ٥.

(٤) في المخطوط بعدها : ( عليه ).

٥١

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وفي صحيحة معاوية بن عمّار (١) : أن ظاهرها أن التشهّد وما يليه بعد إتمام الصلاة ، فالظاهر أنه يستحبّ بعدها هذه الأُمور ، فلا دلالة لها على المطلوب ).

قلت : ويحتمل دخول التسليم في لفظ التشهّد كما دخلت الصلاة على محمّد : وآله فيه ، وإلّا لدلّت على استحباب الصلاة على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآله لإهمال ذكره فيها ، ولا قائل به.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وفيما يليها من الرواية يعني : رواية الحلبي (٢) أن دلالتها على الوجوب أظهر من دلالتها على عدمه ، كما لا يخفى. هذا كلّه ، مع أنه لا يتمّ الاستدلال بالروايات الأربع الأُوَل إلّا إذا ثبت أنه إذا كان جزءاً من الصلاة كان كسائر الأجزاء ، حتّى تبطل الصلاة بصدور شي‌ء من مبطلاتها قبله سهواً أو نسياناً ، وهو ممنوع ).

قلت : أمّا كونه جزءاً واجباً كسائر الأجزاء الواجبة فلا شكّ فيه ، حتّى إنه قد ادّعى المرتضى ركنيّته كما سمعت ؛ وذلك لِمَا رأى فيه من خواصّ الركنيّة ، حيث إنه تبطل الصلاة بتركه عمداً ونسياناً ، لكنّه إنما لحقه هذا الوصف بسبب ما يتخلّل حال تركه بينه وبين غيره من أجزائها الواجبة ، ولذا لو كان المُتَخَلّل وقع نسياناً ، وهو ممّا لا تبطل به الصلاة سهواً ، لم تبطل.

وكذا لو كرّر سهواً أو واقع في غير محلّه سهواً لم تبطل ، وبذلك فارق حكم سائر أركانها. وكلّ جزء واجب لا تبطل الصلاة بتخلّل شي‌ء من مبطلاتها قبله سهواً أو نسياناً ما لم يكن الصادر ممّا يبطلها عمداً وسهواً ، فلا فرق في هذا بين التسليم وغيره من أجزائها الواجبة.

والجواب عن الروايات الأربع قد عرفته ، فلسنا وإيّاه بمحتاجين إلى هذا التكلّف بلا دليل ، ولا إلى هذا الفرق بلا فارق.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وبالجملة ، فقد صار من الواضح البيّن أن هذه الدلائل لا تصلح

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٣ / ١. وسائل الشيعة ١٣ : ٤٢٣. أبواب الطواف ، ب ٧١ ، ح ٣.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ١٦٠ / ٦٢٧ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٢٤ ، أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٣.

٥٢

لمعارضة ما دلّ على الوجوب ، فتعيّن القول به ) ، انتهى كلامه ، أعلى الله مقامه.

وأنا أقول : قد وَضُح الصبح لذي عينين ، فاترك الجدال ، فلا شكّ في الوجوب والجزئيّة.

وقال ابن زهرة : في ( الغنية ) : ( يجب التسليم على خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ويدلّ على ما اخترناه أنه لا خلاف في وجوب الخروج من الصلاة ، وإذا ثبت ذلك ولم يَجُز بلا خلافٍ بين أصحابنا الخروج منها بغير السلام ، من الأفعال المنافية لها كالحدث وغيره ، على ما يقول أبو حنيفة : ، ثبت وجوب السلام ) (١) ، انتهى.

وقال السيوري : في ( التنقيح ) : ( الوجوب قول المرتضى (٢) : والتقي (٣) : وابن أبي عقيل (٤) : وسلّار (٥) : وابن زهرة (٦) : والمصنّف (٧) والعلّامة : في بعض كتبه (٨). وهو الحقّ ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث عليّ عليه‌السلام : تحليلها التسليم (٩).

وجه الاستدلال أنه لم يَجُز الخروج من الصلاة إلّا بالتسليم ، فيكون واجباً لوجوب الخروج من الصلاة إجماعاً ، وإن جاز الخروج بدونه يلزم أن يكون المبتدأ وهو تحليلها أعمّ من خبره وهو التسليم ، وهو باطل ؛ إذ لا يقال : الحيوان إنسان. ولمواظبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والأئمّة : والصحابة والتابعين على فعله ) (١٠) ، انتهى.

وبالجملة ، فنقلُ الإجماع على وجوب الخروج من الصلاة بالتسليم مستفيضٌ ، وهو من أوضح الأدلّة على وجوبه ، والله العالم بحقيقة أحكامه.

__________________

(١) الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) ٤ : ٥٤٨.

(٢) الناصريّات : ٢٠٩ / المسألة : ٨٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٤) عنه في المعتبر ٢ : ٢٣٣.

(٥) المراسم العلوية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) ٣ : ٣٧١.

(٦) الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) ٤ : ٥٤٨.

(٧) المختصر النافع : ٨٤.

(٨) منتهى المطلب ١ : ٢٩٥.

(٩) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ، الفقيه ١ : ٢٣ / ٦٨ ، الخلاف ١ : ٣٧٧ / المسألة : ١٣٤.

(١٠) التنقيح الرائع ١ : ٢١١ ـ ٢١٢.

٥٣
٥٤

الموطن الثاني من مواطن الخلاف

أنهم اختلفوا : هل التسليم جزء ، أو خارج؟

فالمشهور شهرةً بلغت الحدّ الذي أمرنا أهل البيت ، سلام الله عليهم ، بالأخذ بها وترك غيرها ، وأنه شاذّ نادرٌ ، بل ربّما كانت إجماعاً مشهوريّاً الجزئيّةُ ، وهو الحقّ.

قال فاضل ( المناهج ): ( اعلم أنه نقل أكثرُ الأصحابِ على جزئيّة السلام للصلاة على تقدير الوجوب الإجماع ، وربّما ظهر من كلام بعضهم ومنهم المصنّف في ( القواعد ) (١) الخلافُ. وذكر علم الهدى أنه ( لم يجد به من الأصحاب نصّاً ) (٢) ثمّ قوّى الجزئيّة.

والروايات أيضاً مختلفة ، فمنها ما يدلّ على الجزئيّة ، ومنها ما هو بخلافه ، والأظهر الجزئيّة ؛ لِمَا قد عرفت ، وإن من قال باستحباب التسليم لم يمنع من أن يكون جزءاً مندوباً لها ، بل ظاهره ذلك ، فإنه قال : إن الخروج من الصلاة بأحد ثلاثة أشياء : التسليم ، ونيّة الخروج ، وفعل المنافي ، فإذا حلّل صلاته بالتسليم كان هو المُخْرِج له عنها ، فيكون جزءاً منها ) ، انتهى.

وأقول : فَهْمُ جزئيّته من جملة من الأخبار غيرُ عزيز ، خصوصاً مثل تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (٣) ، فإن المقابلة تقتضي الجزئيّة.

ومثل ما جاء في كيفيّة صلاة الخوف ، مثل صحيحة زرارة : وفضيل : ومحمّد بن

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٢٣.

(٢) الناصريّات : ٢٠٩ / المسألة : ٨٢.

(٣) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ، الفقيه ١ : ٢٣ / ٦٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ١١ ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ب ١ ، ح ١٠.

٥٥

مسلم : عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا كان صلاة المغرب في الخوف فرّقهم فرقتين ، وصلّى بفرقة ركعتين ثمّ جلس بهم ، ثمّ أشار إليهم بيده ، فقام كلّ إنسان فيصلّي ركعة ، ثمّ سلّموا وقاموا مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأُخرى فكبّروا ودخلوا في الصلاة ، وقام الإمام وصلّى بهم ركعة ليس فيها قراءة ، فتمّت للإمام ثلاث ركعات ، وللأوّلين ركعتان في جماعة ، وللآخرين واحدة (١) ، فصار للأوَّلين التكبير وافتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم (٢) ، حيث جعل لكلّ فرقة جزءاً من الصلاة ، فدلّ بظاهره أن التسليم جزء كالتكبير. وأمثال هذا غير عزيز.

ومثل صريح موثّقة أبي بصير : ، حيث نصّ فيها على أن آخر الصلاة التسليم (٣) ، وهي نصّ في المسألة.

وأمّا ما يوهم الخروج ، مثل صحيحة سليمان بن خالد : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : سألته عن رجل نسي أن يجلس في الركعتين الأُوليين ، فقال إن ذكر قبل أن يركع فليجلس ، وإن لم يذكر حتّى يركع فليتمّ الصلاة ، حتّى إذا فرغ فليسلِّم وليسجد سجدتي السهو (٤).

وصحيحة ابن أبي يعفور : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن رجل صلّى الركعتين من المكتوبة فلا يجلس فيهما حتّى يركع ، فقال يتمّ صلاته ، ثمّ يسلِّم ، ويسجد سجدتي السهو وهو جالس قبل أن يتكلّم (٥).

والجواب : أنهما من أدلّة القائلين بالاستحباب وقد عرفت ما فيها ، فنحن نطالب القائل بالوجوب والخروج عن الجزئيّة بدليل يدلّ على الخروج والوجوب لم نعلمه ،

__________________

(١) في المصدر : « وحداناً » بدل : « واحدة ».

(٢) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٠١ / ٩١٧ ، ٩١٨ ، الإستبصار ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ / ١٧٦٧ ، ١٧٦٨ ، وسائل الشيعة ٨ : ٤٣٦ ، أبواب صلاة الخوف ، ب ٢ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٠ / ١٣٠٧ ، الإستبصار ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ / ١٣٠٢ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤١٦ ، أبواب التسليم ، ب ١ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ١٥٨ / ٦١٨ ، الإستبصار ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ / ١٣٧٤ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٠٢ ، أبواب التشهّد ، ب ٧ ، ح ٣.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ : ١٥٨ / ٦٢٠ ، الإستبصار ١ : ٣٦٣ / ١٣٧٥ ، وسائل الشيعة ٦ : ٤٠٢ ، أبواب التشهّد ، ب ٧ ، ح ٤.

٥٦

وإلّا فكلّ ما دلّ على الخروج بظاهره فهو من أدلّة الاستحباب.

والشيخ بهاء الدين : بعد أن نقل قول المرتضى (١) : أنه لم يجد لأصحابنا نصّاً في ذلك ، ثمّ قوّى كونه جزءاً من الصلاة ، وأنه ركن من أركانها قال : ( ويلوح من كلام بعض القائلين بوجوبه الحكم بخروجه عنها ، حيث اشترطوا في صحّة الصلاة بظنّ دخول الوقتِ دخوله في أثنائها ، وقيّدوه بما قبل التسليم ، ولم يعتبروا دخوله في أثنائه ) (٢).

قلت : غير خفيّ على المستوضحين أن اعتبارهم حينئذٍ دخول الوقت في أثنائها قبل التسليم ، إنما معناه أنه حينئذٍ إن دخل الوقت عليه قبل كمال الصلاة صحّت ، وإن دخل بعد كمالها لم تصحّ ، وإنما أهملوا ذكر دخوله في أثناء التسليم ؛ لأنه لا يكاد يتحقّق للمكلّف العلم بدخول الوقت بين لفظ السلام وبين لفظة عليكم من قول المصلّي السلام عليكم مع الاتّصال ، بل لا يبعد جدّاً العلم بدخوله بين الصلاة على محمّد : وآله وبين التسليم مع الاتّصال ، فهم لم يريدوا إلّا ما يعلم يقيناً من القبليّة والبعديّة ، وهو ما يدخل في وسع المكلّفين.

ولو كانوا ملاحظين ما فهمه رحمه‌الله لصرّحوا بدخوله قبل الصلاة على محمّد : وآله صلّى الله عليه وعليهم وبعدها أو في أثنائها ، ولم يذكروا ذلك ، فإن كان تركهم للتعرّض لذكر دخوله في أثناء التسليم يدلّ على أنهم قائلون بخروج التسليم ، كان تركهم لذكر مثله بالنسبة إلى الصلاة على محمّد وآله دليلاً على أنهم يقولون بخروجها ، وليس كذلك.

ثمّ قال البهائي : رحمه‌الله تعالى ـ : ( وقد يتراءى أنه لا طائل في البحث عن ذلك ؛ لرجوع هذا البحث في الحقيقة إلى البحث عن وجوب التسليم واستحبابه ،

__________________

(١) الناصريّات : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ / المسألة : ٨٢.

(٢) الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : ٢٥٣ ( حجريّ ).

٥٧

فعلى القول بوجوبه لا معنى لخروجه ، وعلى القول باستحبابه لا معنى لدخوله ) (١).

قلت وبالله المستعان ـ : هذا الكلام شي‌ء وأي شي‌ء ، فقوله رحمه‌الله : ( إنه ليس بشي‌ء ) (٢) ليس بشي‌ء ، وذلك أنا لو قلنا : إنه واجب خارج كان قولاً بأنه تكليف مستقلّ بنفسه ، فلا معنى لإضافته لفرض الظهر الواقع قبله مثلاً دون العصر الواقع بعده ، فإن صحّ نسبته لما قبله صحّ لما بعده ، وإن لم يصحّ نسبته لما بعده لم يصحّ لما قبله ؛ لأنه واجب مستقلّ خارج عنهما ، فكيف يقال : تسليم الظهر ، ولا يقال : تسليم العصر؟!.

وأيضاً ، فهذا الواجب الخارج ليس بمقدّمة للفرض الواقع قبله ، ولا شرط في صحّته ولا في التكليف به ؛ لأن شيئاً من ذلك لا يكون بعد الفراغ من الصلاة ، وليست الصلاة السابقة عليه من باب الأسباب المقتضية لوجوبه ، كالكسوف بالنسبة لصلاته ، قطعاً ، فما معنى هذا الواجب المستقلّ ، وما أوجبه؟

فإن قلت : النصّ أوجبه. قلت : ما دلّ على وجوبه دلّ على جزئيّته.

وأيضاً ، فالقول بخروجه يستلزم إدخاله في التعقيب ، ولا قائل بوجود تعقيب واجب ، ويستلزم القول بصحّة الخروج بأيّ مُخْرِجٍ ، أو تعيين المُخْرِج بالصلاة على محمّد : وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا قائل من الفرقة فيما علمنا ، فلم يبقَ إلّا إن البحث يرجع إلى وجوبه واستحبابه ؛ إذ لا يعقل أن واجباً من واجبات الصلاة خارج عنها ، ولا أن مندوباً واقعاً بعدها جزء منها ؛ إذ لا نعقل من واجبها إلّا جزءها ، ولا مندوباً بعد كمالها إلّا خارجاً عنها.

ثمّ قال البهائي رحمه‌الله : يعني : بعد هذا الكلام ـ : ( وليس بشي‌ء ؛ إذ على القول باستحبابه يمكن أن يكون من الأجزاء المندوبات ، كبعض التكبيرات السبع ، وكالسلام على النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله والملائكة في آخر التشهّد.

__________________

(١) الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : ٢٥٣ ( حجريّ ).

(٢) الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : ٢٥٣ ( حجريّ ).

٥٨

وعلى القول بوجوبه يمكن أن يكون من الأُمور الخارجة عن حقيقة الصلاة ، كالنيّة عند بعض ، بل جوّز صاحب ( البشرى ) جمال الدين بن طاوس : أن يكون الخروج من الصلاة بـ : « السلام علينا » وعلى عباد الله الصالحين ، ويكون قول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد ذلك واجباً أيضاً وإن كان المُخْرِجُ غيره ) (١).

قلت : أمّا إنه ليس بشي‌ء ، فقد عرفت أنه شي‌ء وأيّ شي‌ء.

وأمّا إنه على الاستحباب يمكن أن يكون من أجزائها ، فإمكانه ممنوع ؛ إذ الضرورة قاضية بأن الشي‌ء إذا تمّ وانقضى لم يبقَ له جزء حتّى يقال : إن الشي‌ء الخارج عنه جزء له واجباً كان أو مندوباً ، فإن القولَ بأن الصلاة تمّت بالصلاة على محمّد : وآل محمّد : وأن التسليم خارج وهو جزء منها متناقضٌ ، فإن مؤدّاه أنها تمّت وأنها لم تتمّ.

والفرقُ بين المندوب الواقع في خلالها قبل كمالها بكمال واجباتها وبين المندوب الواقع بعد كمالها وتمامها ، أوضحُ من النهار والشمس طالعة ليس عليها غبار ، فإن الأوّل لا شكّ في جزئيّته ، والثاني لا شكّ في عدم جزئيّته لوقوعه بعد تمامها ، ولأنا لا نعقل الفرق بينه وبين سائر التعقيبات الواقعة بعدها ، والسلام على النبيّ جزء منها لا نعلم أحداً نفى جزئيّته ، والأخبار تدلّ عليه كما هو ظاهر ، وهو دليل أيضاً على جزئيّة التسليم ووجوبه.

وأمّا التكبيرات الست ؛ فما أُوقع منها بعد التحريم فلا شكّ في جزئيّته لوقوعه خلالها ، وما أُوقع منها قبل التحريمة فلا شكّ في خروجه عنها وعدم جزئيّته ؛ للنصّ (٢) والإجماع بلا معارض على أن أوّل أفعال الصلاة التحريمة ، فالفرقُ بينها وبين الواقع بعد كمال أفعال الصلاة أوضحُ من أن يحتاج إلى بيان.

وبهذا يتّضح الجواب عن إمكان وجود جزء واجب خارج ؛ إذ لا يعقل أن يكون

__________________

(١) الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ( حجريّ ).

(٢) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ، الفقيه ١ : ٢٣ / ٦٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ١١ ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ب ١ ، ح ١٠.

٥٩

ما خرج عن الشي‌ء بأجمعه جزءاً له ، فإنه في معنى أنه جزء وليس بجزء ، وخارج وليس بخارج ، وهو محال ؛ لاستلزامه الجمع بين النقيضين.

وأمّا النيّة ؛ فإن فُرِضَت جزءاً فليست بخارجة ، وإن فُرِضَت خارجة عن الحقيقة فليست بجزء ، مع أن الفرق بينها وبين التسليم لا يخفى بأدنى تأمّل ، فهو قياس مع الفارق ، على أن النيّة ليست بفعل من أفعالها الواقعة خارج الزمان ، وإنما هي رتبة من رتب وجودها الواقعة قبل الزمان والمكان.

وأمّا ما نقله عن ( البشرى ) فكلام غير واضح المعنى ، فإن ظاهره أن المصلّي مخيّر في أنه يجعل المُخْرِجَ السلام علينا ، أو لا يجعله ، مع بقاء السلام عليكم على وجوبه ، ويحتمل على تقدير نيّة الخروج به الوجوب والندب ، فعلى الأوّل يلزم أن الصيغتين واجبتان ، وعلى الثاني يلزم صحّة الخروج بالمندوب ، وهذه الاحتمالات جارية فيما إذا لم ينوِ به الخروج ولم يعيّن شيئاً من الاحتمالات.

وبالجملة ، فكلامه هذا خارج عن جميع النصوص والفتاوى ، فلا شكّ في وجوب الإعراض عنه.

وأنا إلى الآن وهو اليوم السادس عشر من شهر ذي الحجّة الحرام [ من ] السنة الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف لم أظفر بمصرّحٍ من الأصحاب بأن التسليم واجب خارج ، إلّا ما تُوهِمُه عبارة صاحب ( الفاخر ) (١) : ، على ما نقله عنه في ( الذكرى ) ، حيث قال : ( أقلّ المجزي من الصلاة في الفريضة : تكبيرة الافتتاح ، وقراءة الفاتحة في الركعتين ، أو ثلاث تسبيحات ، والركوع ، والسجود ، وتكبيرة واحدة بين السجدتين ، والشهادة في الجلسة الأُولى ، وفي الأخيرة الشهادتان والصلاة على النبيّ : وآله صلّى الله على محمّد : وآله والتسليم ، والسلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله

__________________

(١) الفاخر في الفقه ، لأبي الفضل محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم الصابوني الجعفي الكوفي ، الزيدي المستبصر العائد إلى القول بالإمامة ، والساكن بمصر ، من أعلام المائة الثالثة وبعدها. الذريعة ١٦ : ٩٢.

٦٠