رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

وحيث اشترطنا القطع أو الظنّ الشرعيّ بوقوعه ، فلو أخبرنا واحد بوقوع الصلاة على الميّت لم يسقط عنّا ؛ لعدم حصول الظنّ الشرعيّ بذلك.

أمّا لو صلّى عليه واحد مكلّف فهل يسقط الوجوب بذلك عنّا مطلقاً ولو كان أنثى ، أو يشترط فيه العدالة؟ إشكال ، ينشأ من عدم قبول خبر الفاسق لو أخبَر بإيقاعها ؛ لوجوب التثبّت عند خبره ، ومن صحّة صلاة الفاسق في نفسها. هذا هو المشهور في الحكم ، وفيه إشكال ينشأ من أن قيام الظنّ مقام العلم إنما هو بنصّ خاصّ ، أو بدلالة عقليّة ، ولا شي‌ء منهما فيما نحن فيه. ولأن الوجوب معلوم والمُسْقِطُ مظنون ، والعلم لا يسقط بالظنّ فتأمّل فيه ) (١) ، انتهى.

والذي يظهر لي أن المسألة تدور على الظاهر دون الأصل ، فيكفي في الحكم بسقوط التكليف به الظنّ الغالب المستند إلى الأمارات القويّة [ التي (٢) ] يظهر منها قيام الغير به ، مثل إخبار العدل عن نفسه أو غيره ، ومثل استمرار عادة أهل محلّة الميّت واستقرارها على أنهم لا يدفنون ميّتهم بغير صلاة ، وخصوصاً إذا كان فيهم [ صالحٌ (٣) ] ، ومثل مشاهدة صلاة أحد عليها ، مع العلم بمعرفته للصلاة وعلمه بوجوبها. وإلّا لزم الحرج ؛ إذْ العلم اليقينيّ لا يُمكن حصوله ، لو رأيتَ عدلين يصلّيان على جنازة أو أخبراك بأنه صُلّيَ عليها كان غايته الظنّ وإن كان ذلك علماً شرعيّاً ، لكنّه لا يفيد أكثر من الظنّ ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على نيّتهما.

وأيضاً لو لم نقل بكفاية الظاهر والظنّ القويّ المستند إلى القرائن للزم أنه متى سمع المسلمون بميّت في أرضٍ لزمهم أجمعين السعي إلى الصلاة عليها ولو بسفر مع المكنة ، حتّى تقوم البيّنة بأنه صُلّي عليها أو يصلّون عليها. وهو خلاف عمل الأُمّة في سائر الأعصار ، بل عملهم على الدوام الاعتماد على مثل هذا الظنّ ، وتقديم

__________________

(١) عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٤ ، ٣١٥ ( حجريّ ) ، ولم يورده كاملاً.

(٢) في المخطوط : ( الذي ).

(٣) في المخطوط : ( صلحا ).

٤٨١

الظاهر على الأصل ، و [ ما (١) ] وجدنا ولا سمعنا بمن طلب البيّنة في ذلك في عصر ، فالإجماع الفعليّ من المسلمين قائم على الاكتفاء بقيام مثل ذلك الظنّ ، وتقديم الظاهر على الأصل ، هذا مع ما فيه من الحرج والعسر والمشقّة الشديدة.

وأيضاً الإجماع قائم من الأُمّة على أنه متى فَعَلَه واحد ممّن خُوطِبَ به سقط عن الباقين وإن وقع الشكّ أو الخلاف في الاكتفاء بغير العدل ، فلا بدّ لذلك من مصدوق في الخارج ، وإلّا لكان هذراً من القول ، وحاشاهم من مثله ، خصوصاً في أحكام الله ، فنوّاب الإمام أجلّ من ذلك.

وفِعْلُ الواحد وإن كان عدلاً وشُوهِدَ فاعلاً لا يُثمر أكثر من الظنّ الذي اعتبرناه. والحقّ في غير العدل أن خبره مجرّداً عن العلم بفعله لا يفيد ظنّاً يُعتمد عليه في سقوط الواجب. وفعله المقطوع به بالمشاهدة أو شهادة العدلين به أو شياعه واستفاضته إن أثمر مثل ما ذكرناه من الظنّ سقط به الفرض ، وإلّا فلا.

وبالجملة ، فاشتراط القطع أو شهادة العدلين بفعل الغير في سقوط الفرض ربّما أدّى إلى القول بالوجوب العينيّ ، وفساده ظاهر.

مناقشة عبارة الشيخ جواد رحمه‌الله

ولنرجع إلى الكلام على عبارة الشيخ جواد رحمه‌الله : فنقول :

قوله : ( هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ).

أقول : فِعْلُ البعض لا يسقطه عن الكلّ ، وإنما يسقطه عن الباقين ؛ فإن العامل لا يحسن أن يقال سقط عنه بفعله ، فحقّ العبارة ما يسقط عن بقيّة المكلّفين بفعل غيرهم ، ولكنّ المقصود معلوم ، فالمناقشة في العبارة سهلة ، وإنما أردنا بيان مقصود العبارة.

ولكن حصول القطع غير ممكن ؛ لتوقّفه على الاطّلاع على الضمائر ؛ حتّى يعرف

__________________

(١) في المخطوط : ( لا ).

٤٨٢

صحّة النيّة وخلوصها لله ، ومطابقتها للشرع ، وذلك غير ممكن إلّا للمعصوم ، أو مَنْ أخبره المعصوم.

وإن أراد القطع العادي الحاصل بالقرائن القويّة المثمرة له ، فهو فردٌ ممّا ذكرناه من الظنّ ، وحينئذٍ لا حاجة إلى ذكر الظنّ الحاصل بشهادة العدلين ويجعله قسيماً للقطع ، فإنه قسم من الظنّ المعتبر ، وعلى هذا يرتفع الخلاف ويوافق قوله المشهور.

قوله : ( لكنْ إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يَقُم به أحد ) أي ظنّ كلّ طائفة قيام غيرها به ، ( فهل يسقط الوجوب أم لا؟ فيه ) أي في سقوطه عن الجميع ( نظر ؛ إذ يلزم منه ) أي من سقوطه عن الجميع ( ارتفاع الوجوب ) أي ارتفاع التكليف الوجوبي بهذه العبارة عن جميع المكلّفين بها ( قبل أدائه من غير نسخ ) لهذا الحكم والتكليف.

( ويدفعه ) أي لزوم ما ذكر ( أن سقوط الوجوب قد يكون بغير النسخ ، كانتفاء علّته ، مثل إحراق الميّت الرافع لوجوب الغسل ) أي والتكفين والصلاة والدفن لو كان رماداً أو أعفته الرياح.

ولعلّه أراد بالعلّة مطلق السبب ، بما يشمل المحلّ والموضوع ، ولو قال : لتعذّره بذهاب محلّه وشبهه ، لكان أوضح.

ثمّ أقول : لو ظنّ الظنّ المعتبر كلّ فريق قيام الآخر به ، وفي الواقع لم يقمْ به أحد منهم ، فإن لم ينكشف ذلك لأحد منهم فلا ريب في سقوطه عن الكلّ ؛ لوجود المُسقِط ، ولا تكليف إلّا بعد البيان ، وهذا ممّا لا يعلمون ، ومثل هذا وشبهه عنى صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله رُفِعَ عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون .. (١).

وأيضاً هؤلاء حينئذٍ أخذوا بالرخصة وانتهوا إليها ، والله يُحبّ أن يُؤخذ برخصته كما يُحبّ أن يُؤخذ بعزائمه. وإن انكشف ذلك لكلّهم أو بعضهم فقد انكشف لمن علم به فساد ظنّه أنه باقٍ في عهدة التكليف إن كان التدارك ممكناً حينئذٍ فيجب عليه المبادرة للعمل ، وإلّا فالسقوط عنه باقٍ ؛ إذ لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها.

__________________

(١) الخصال ٢ : ٤١٧ ، باب التسعة / ٩ ، وسائل الشيعة ٤ : ٣٧٣ ، أبواب لباس المصلِّي ، ب ١٣ ، ح ٦ ، ٨.

٤٨٣

قوله : ( وحيث اشترطنا القطع أو الظنّ الشرعيّ ).

الأوْلى أن يقول : وحيث اشترطنا العلم القطعيّ أو الشرعيّ ، فإن الظنّ الحاصل من شهادة العدلين علم شرعيّ ؛ لأن الشارع أقامه مقام العلم القطعيّ ، ولذا أحلّ به الدماء والفروج والأموال وحقنها به ، وأوجب به الصوم والإفطار والحجّ والحدود والتعزيرات .. وغير ذلك. فيكون علماً وإن احتمل النقيض بحسب الإمكان العامّ رحمةً من الله وتسهيلاً لسبيل التكليف.

ثمّ نقول : القطع بمعنى اليقين الرافع للنقيض غير ممكن كما عرفت ، والظنّ الشرعيّ إن أراد به كلّ ما يحصل به الظنّ القويّ الراجح ، فهو ما قلناه ، فلا خلاف منه ، وأمثاله ممّن عبّر بمثل هذه العبارة (١).

وإن أراد خصوص الظنّ الحاصل بشهادة العدلين منعناه ؛ لما يؤول إليه من التكليف بما لا يطاق. وكثير من القرائن يفيد ظنّاً أقوى من الظنّ الحاصل بشهادة العدلين ، كمشاهدتهما يعملان ، بل مشاهدة العدل الواحد ، وكالشياع ، وكالوثوق بعادة المؤمنين العالمين بوجوب العمل ، وخصوصاً إذا خالطهم العدول ، وما أشبه ذلك.

قوله : ( فلو أخبَرَنا واحد ) أي وإن كان عدلاً ( بوقوع الصلاة على الميّت ، لم يسقط عنّا ، أي لعدم حصول سبب السقوط ؛ لعدم حصول الظنّ الشرعيّ ) الذي هو المُسْقِط ( بذلك ) أي بوقوع العمل في الخارج.

قوله : ( أمّا لو صلّى عليه واحد مكلّف ، فهل يسقط الوجوب بذلك عنّا مطلقاً ولو كان أُنثى ، أو يشترط فيه العدالة؟ إشكال ، ينشأ من عدم قبول خبر الفاسق لو أخبر بإيقاعها ؛ لوجوب التثبّت عند خبره ، ومن صحّة صلاة الفاسق في نفسها ).

قلت : لا ينبغي منه الشكّ والإشكال في عدم كفاية صلاة الواحد وإن كان ذكراً عدلاً في سقوط الفرض ؛ لأنه اشترط لسقوطه القطع أو الظنّ الشرعيّ ، وليس شي‌ء منهما حاصلاً بصلاة العدل الواحد قطعاً ، فضلاً عن الأُنثى أو الفاسق الواحد.

__________________

(١) نسخة بدل : ( عبارته ).

٤٨٤

وظاهر عبارته الاكتفاء بصلاة العدل الواحد وأنه لا إشكال حينئذٍ ، وهذا منافٍ لشرطه القطع أو العلم الشرعيّ ، وإنما يتمّ هذا البحث على ما اخترناه.

وحينئذٍ نقول : إن حصل بصلاة العدل ذكراً كان أم أُنثى ظنّ قويّ بانضمام القرائن الخارجة المثمرة له كشدّة صلاحه ، ورغبته في الأعمال ، ومبادرته ، وما أشبه ذلك كفى في السقوط عمّنْ شاهده ، وإلّا فلا.

أمّا صلاة الفاسق والفاسقة فلا تكفي في تحقّق المُسقِط للفرض الثابت بيقين ، ثمّ أيّ فرق بين شهادة العدل الواحد ورؤيته يصلّي؟ فإن صحة صلاته إنما تُعْلَم بخبره ، فإذا كان شهادته لا تكفي في سقوط الفرض ، فمشاهدته يصلّي بدون إخباره لا تكفي بطريق أوْلى ، وإخباره بعد صلاته بصحّتها لشهادته ، بل شهادته أقوى.

وصحّة صلاة الفاسق في نفس الأمر لا تثمر ظنّاً بصحّتها ، فضلاً عن القطع أو الظنّ الشرعيّ الذي اعتبره ؛ لأن وقوعها صحيحة لا يُعلَم إلّا بخبره ، وخبره أضعف من شهادته ، مع أن شهادته غير مقبولة ، فسقط الإشكال من أصله.

قوله : ( هذا هو المشهور ) يعني : الاكتفاء بصلاة الواحد الفاسق. وهذا بإطلاقه مع ما اختاره هو على طرفي إفراط وتفريط.

والحقّ ما قلناه من أنه إن أثمر ظنّاً معتبراً يتحقّق به ظاهريّة وقوع الفعل كفى في السقوط ، وإلّا فلا ، كالعدل. ونمنع أنه بإطلاقه هو المشهور ، بل المشهور ما قرّرناه من الظنّ القويّ المستند إلى القرائن الشرعيّة أو العرفيّة أو العاديّة القويّة.

قوله : ( وفيه إشكال ينشأ من أن قيام الظنّ مقام العلم إنما هو بنصّ خاصّ ، أو بدلالة عقليّة ، ولا شي‌ء منهما فيما نحن فيه ، ولأن الوجوب معلوم [ والمسقط ] (١) مظنون ، والعلم لا يسقط بالظنّ ).

أقول : هذا الإشكال مأخوذ من كلام الشهيد : في ( الروض ) في بحث أحكام

__________________

(١) في المخطوط : ( السقوط ) وما أثبتناه وفقاً للنص الذي نقله المصنِّف عن شارح ( الزبدة ). المتقدّم في ص ١٩.

٤٨٥

الأموات ، حيث قال رحمه‌الله : ( واعتبر المصنّفُ وجماعة في سقوط التكليف به الظنّ الغالب ؛ لأن العلم بأن الغير يفعل كذا في المستقبل ممتنع ، فلا تكليف به ، والممكن تحصيل الظنّ ، ولاستبعاد وجوب حضور جميع أهل البلد الكبير عند الميّت حتّى يدفن ، ونحو ذلك ).

إلى أن قال : ( ويشكل بأن الظنّ إنما يقوم مقام العلم مع النصّ عليه بخصوصه ، أو دليل قاطع. وما ذُكِر لا تتمّ به الدلالة ، فإن تحصيل العلم بفعل الغير في المستقبل ممكن بالمشاهدة ونحوها من الأُمور المثمرة له ، والاستبعاد غير مسموع ، وباستلزامه سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ، وامتناع نيّة الفرض من الظان عند إرادة المباشرة ، وبأن الوجوب معلوم والمُسْقِط مظنون ، والمعلوم لا يسقط بالمظنون ) (١) ، انتهى.

ثمّ نقول : الدلالة العقليّة والشرعيّة قائمتان على قيام الظنّ الذي اعتبرناه مقام العلم هنا :

أمّا الاولى ؛ فلأن العلم اليقينيّ بقيام الغير بالعمل غير ممكن إلّا للمعصوم أو مَنْ يُخبره به المعصوم كما تقدّم ، فتكليف عامّة البشر به تكليف بما لا يطاق ، وهو محال على الله ، فوجب في حكمة أرحم الراحمين أن يقوم الظنّ المذكور مقام العلم هنا ، لا كلّ ظنّ ووهم.

وأمّا الثانية ؛ فلما عرفت من إجماع الأُمّة على العمل به هنا ، وإقامتهم إيّاه مقام العلم. وأنتَ إذا تدبّرت الأخبار وجدتها غير خالية من الإشارة إلى ما قلناه ، على أنه لو شرطنا في كلّ حكم وجود نصّ خاصّ لتعطّل جُلّ أحكام الشريعة ، ولبطل الاستدلال بالعامّ والمطلق والمجمل والمفهوم والفحوى ، وغير ذلك من ضروب الدلالات ، وهو باطل بالضرورة.

فحصر الحكم في الدلالة العقليّة أو النصّ الخاصّ مخالف لإجماع الفرقة ، بل

__________________

(١) روض الجنان : ٩٢ ( حجريّ ).

٤٨٦

للضرورة الوجدانيّة من النصّ المتواتر المضمون والفتوى ، والله العالم. وبهذا يظهر دفع الإشكال.

والمشاهدة لا تحصّل أكثر من الظنّ القويّ المثمر لظاهريّة حصول المسقط ، لا العلم القطعيّ المقاوم ليقين شغل الذمّة بالتكليف ؛ لتوقّفه على معرفة الضمائر والسرائر. فإن أراد بالعلم ما ذكرناه فمرحباً بالوفاق.

والاستبعاد مسموع ؛ لأن منشأه حصول المشقّة والحرج ، واستلزامُ سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ممنوع ؛ لابتنائه على ندبيّة نيّة العامل ثانياً ، وفيه ما مرّ.

الثالث : لو وجد المكلّف مَنْ يُفيد فعْله أو قوله الظنّ المُسْقِط قد شرع في العمل ، مع قبول العمل ؛ لوقوعه من اثنين كصلاة الجنازة ، وردّ السلام ، وحمل الميّت ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما أشبه ذلك من الكفائيّ ، ولمّا يكمل العمل ، فهل يجوز له حينئذٍ التخلّف عنه والترك له؟

وجهان ، أحوطهما وأوفقهما بقواعد الشريعة الثاني ؛ ليقين توجّه الخطاب إليه ؛ ويقين استقرار الوجوب عليه حينئذٍ ، مع يقين عدم وجود المُسْقِط ، واحتمال عروض المفسدِ للعمل من الموت والإغماء والعجب والرياء ، وغيرها.

وللأوّل أن الظاهر في الأعصار والأمصار من عمل المسلمين ذلك ، ولأن الثاني لا يخلو من نوع حرج ، ولابتناء الباب على تحكيم الظاهر والعمل به دون الأصل ؛ لما يلزمه من العسر والحرج ، والاحتمالات لا ترفع الظاهر ، فإن انكشف وقوع شي‌ء منها وجبت المبادرة ورجع إلى الحالة السابقة على هذا الفعل ، فكأنه لم يكن منه أثر حينئذٍ.

وفي الثاني يقين السلامة من مخالفة الأمر ، وأوْلى بذلك ما لو رأيت جنازة محمولة لم يُصلّ عليها مثلاً ولو كان حاملوها ثقات.

وقال الشهيد : في ( الروض ) في أحكام الأموات بعد حكمه بأنها كلّها كفائيّة : ( والمراد بالواجب الكفائيّ هنا : مخاطبة كلّ مَنْ عَلِم بموته من المكلّفين ممّن يُمكنُه

٤٨٧

مباشرة ذلك الفعل استقلالاً أو منضمّاً إلى غيره ، حتّى يعلم تلبّس من فيه الكفاية به ، فيسقط حينئذٍ عنه سقوطاً مراعًى باستمرار الفاعل عليه حتّى يفرغ.

ولو لا اعتبار المراعاة لزم عدم وجوب الفعل عند عروض مانعٍ للفاعل عن الإكمال ، وهو باطل ) (١) ، انتهى.

وهو حسن إن أراد بالعلم المغيّا بـ ( حتّى ) هو الظنّ الراجح الناشئ عن القرائن القويّة المثمرة ؛ لكون الظاهر الفعل حتّى يستقيم. أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن ظننت أن في مشاركتك لمن شرع فيه زيادة نجع أو سرعة تأثير وجبت بلا إشكال ، وإلّا فكما تقدّم. وأهون هذا ردّ السلام لسرعة انكشاف الأمر فيه.

الرابع : الكفائي فوريّ ، فلو أخّره بما ينافي الفوريّة أثِمَ إن تعمّد ولم يسقط وجوبه ، ووجبت تأديته ما أمكن ، ما بقي محلّه وموضوعه ، بعنوان الوجوب أداءً ، ووقته العمر ؛ لأن موجبه من قبيل الأسباب ولم يحدّده الشارع إلّا في الصلاة على الميّت بعد الدفن ، فقيل : يوم وليلة. وقيل : ثلاثة أيّام. وقيل : لا حدّ له. وهو الأظهر.

الخامس : السلام ابتداءً وردّاً ، جُمِعَ الكفائي والتخييري واجباً وندباً فيهما ، فالكفائي المستحبّ ابتداء السلام ، فإذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم ، وهو أدنى مراتب الندب ، ولا ترتفع ندبيّة الابتداء عن الباقين فيسلّمون ندباً ، وإنما كفى سلام أحدهم بالنصّ ، ولأن الحالة الاجتماعيّة لها وحدة جمعيّة ، فإذا سلّم أحدُهم فكأنه سلّمَ جزء ذلك الواحد ، فيكفي عن كلّه ، وسلام الكلّ أزكى للكلّ.

واعلم أن جميع السلام المبتدأ مندوب إلّا التسليم في آخر الصلاة ، فإنه واجب في مشهور العصابة.

والتخييريّ المستحبّ هو تخيير المبتدئ بالسلام بين الصيغ الثلاث.

والكفائيّ الواجب هو الردّ ، فإذا ردّ من القوم واحد أجزأ عن الباقين بالإجماع

__________________

(١) روض الجنان : ٩٢ ( حجريّ ).

٤٨٨

والنصّ (١). والوجه التخريجي فيه ما مرّ من أن الحالة الاجتماعيّة لها وحدة جمعيّة ، فالمُسَلّم على الجماعة أو الاثنين ملاحظ أنه يُسَلّم على الجميع من حيث هو مجموع لا من حيث الانفراد والتعدّد ، فالواحد منهم حينئذٍ جزء الواحد الجمعيّ المتألّف من الأفراد ، فإذا ردّ الواحد فكأنه ردّ جزء الواحد ، فيكفي عن الكلّ ، وهو أدنى مراتب عمل ما وجب على ذلك الواحد المجموعيّ ، فلو ردّ غيره ردّ وجوباً سواء ردّ الباقون دفعة أو متعاقبين ؛ إذ لا فرق بين اتّحاد زمن ردّ كلّ واحد بنفسه ، أو تعاقب أزمان ردّهم.

والواجب التخييري فيه هو التخيير في الردّ بين المثل والأحسن ، فلو قال المسلّم سَلام عليكم مثلاً ، وقال الرادّ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، كان مجموعُ الردّ فرداً من أفراد التخييريّ ، فيجب قصد الوجوب بجميع صيغة الردّ ، لا نعلم فيه خلافاً. فلا تتوهّم أن ما زاد عن المثل من صيغة الردّ مندوباً ، وإلّا لم يكن الردّ في مثله من الواجب المخيّر ، وهو من الواجب المخيّر إجماعاً ونصّاً (٢) بلا معارض.

والردّ يجب فوراً بلا خلاف يُعرف ، فلو أخّره عمداً أثِم ، وسهواً أو لعذر لم يأثم ، ولا يسقط الوجوب حينئذٍ ، بل يجب المبادرة إليه ما أمكن. ووقته العمر أداءً ؛ لعدم الدليل على تحديد وقت أدائه ، وعدم ورود القضاء فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي يظهر لي من اختلاف الأخبار في صيغة السلام في آخر الصلاة أن الصيغ الثلاث واجبة تخييراً ، فالمصلّي يجب عليه أحدها تخييراً ، وأن حاله كحال المسلّم في غير الصلاة ابتداءً. فعلى هذا يجب على المأموم أن يأتي بالمثل أو الأحسن تخييراً كحال الرادّ في غير الصلاة.

السادس : الكفائي قسيم للتخييري كما عرّفه ، فله شبه بالمندوب من حيث جواز الترك لا إلى بدل بعد قيام الغير به ، أو ظنّه كما مرّ. وقد ذكر ذلك الشهيد : في

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٤٧ / ١ ، ٣ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٧٥ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٤٦ ، ح ٢ ، ٣.

(٢) الكافي ٢ : ٦٤٥ / ٩ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٦٦ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٣٩ ، ح ١.

٤٨٩

قواعده كما سبق.

السابع : الكفائي ينقسم إلى معاملات وعبادات ، والعبادات منه ما هو مشابه للمعاملات ؛ لعدم خلوّها من تعلّقه بالغير من الناس أو غيرهم. وكلّ منهما قد يكون متعلّقه وموضوعه أمراً كلّيّاً ، وقد يكون جزئيّاً. فالأوّل من الأوّل مثل عمل الصنائع التي لا يقوم نظام التمدّن إلّا بها ، مثل البناية والحدادة ، وشبههما. والثاني منه مثل إطعام هذا الجائع ، وسقي هذا الظمآن ، وإنقاذ هذا الغريق ، وشبه ذلك.

والأوّل له شَبَهٌ بالمباح بالنسبة إلى خصوصيّات جزئيّاته ؛ ولذلك صحّ الاستئجار فيه على جزئيّات الأعمال بالنسبة إلى خصوصيّات الأشخاص ، وجاز للعامل الامتناع منها ، فتلطّف لكلّ موضع واحكم عليه بما يناسبه.

والأوّل من الثاني مثل سُكنى الحرمين ، ومطلق حجّ البيت لا باعتبار مباشر معيّن ، وشبههما. وفي بعض أنواع هذا القسم ما يشبه المعاملات ، كالمثال الأوّل ؛ ولذا جاز الاستئجار عليه وإن لم يجز الامتناع منه قبل قيام الغير به.

والثاني كتغسيل هذا الميّت ، والصلاة عليه ، وشبههما. وما لا يتعلّق منهما بالأمر الكلّي من حيث هو ، فالظاهر عدم جواز أخذ الأُجرة عليه مطلقاً.

تنبيه : قال الشهيد : في ( الروض ) : ( والنيّة معتبرة فيهما يعني : تحنيط الميّت وتكفينه لأنهما فعلان واجبان ، لكنْ لو أخلّ بها لم يبطل الفعل. وهل يأثم بتركها؟ يحتمله ؛ لوجوب العمل ، ولا يتمّ إلّا بالنيّة ؛ لقوله عليه‌السلام لا عمل إلّا بنيَّة (١).

وعدمه أقوى ؛ لأن القصد بروزهما للوجود كالجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقضاء الدين ، وشكر النعمة ، وردّ الوديعة ، فإن هذه الأفعال كلّها يكفي مجرّد فعلها في الخلاص من تبعة الذمّ والعقاب ، ولكنْ لا يستتبع الثواب إلّا إذا أُريد

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٤ / ١ ، الخصال ١ : ١٨ ، باب الواحد / ٦٢ ، الأمالي ( الطوسي ) : ٥٩٠ / ٢٢٣ ، وفيه : « بالنيّة » ، عوالي اللآلي ٢ : ١٩٠ / ٨٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ٩.

٤٩٠

بها التقرّب إلى الله تعالى ، كما نبّه عليه الشهيد : في ( القواعد ) (١). ومن هذا الباب توجيهه إلى القبلة ، وحمله إلى القبر ، ودفنه فيه ، وردّ السلام ، وإجابة المُسَمّت ، والقضاء ، والشهادة وأدائها ، أمّا غسل الميّت فلا ريب في اشتراط النيّة فيه إذا لم يجعله إزالة نجاسة ، فلا يقع معتبراً في نظر الشرع إلّا بها ، كنظائره من الأغسال ) (٢) ، انتهى.

وأقول : ظاهر كلامه هذا ، بل صريحه أن جميع ما ذكره من قسم المعاملات لا من قسم العبادات ، وعليه فلا معنى للإثم بترك النيّة وإن كانت شرطاً لحصول الثواب.

وقوله عليه‌السلام لا عمل إلّا بنيَّة (٣) إن كان المراد به نفي التحقّق فنعم ، لكنّه لا يدلّ حينئذٍ على المطلوب ، وإن أُريد الصحّة والأجر منعناه في المعاملات وخصّصناه بالعبادات.

ثمّ نقول أيضاً : إنه رحمه‌الله استثنى التغسيل من جميع ما ذكره ، ولم يذكر دليلاً على وجوب النيّة فيه.

ومن ثمّ تردّد المحقّق في ( المعتبر ) (٤) في وجوبها فيه ، واحتمل أنه من باب إزالة النجاسة ، فنحن نطالب مزهر ( الروض ) بالفرق بين التغسيل وغيره من واجبات الميّت على الكفاية غير الصلاة.

والتحقيق أن جميع ما ذكره من باب المعاملات كما أفاد ، فلا يُشترط في صحّته النيّة ، ولا إثم بتركها إلّا تغسيل الميّت ، فإنه عبادة ؛ لما تكثّرت به النصوص من أنه غسل جنابة (٥) ، وكغسل الجنابة (٦) ، وعُلّلَ فيها بأنه لأجل خروج النّطفة التي خلق

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٨٩ / القاعدة التاسعة والثلاثون ، الفائدة الأُولى ، ق ١ ، ف ٢.

(٢) روض الجنان : ١٠٤ ـ ١٠٥ ( حجريّ ).

(٣) الكافي ٢ : ٨٤ / ١ ، الخصال ١ : ١٨ / ٦٢ ، الأمالي ( الطوسي ) : ٥٩٠ / ٢٢٣ ، وفيه : « بالنيّة » ، عوالي اللآلي ٢ : ١٩٠ / ٨٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ٩.

(٤) المعتبر ١ : ٢٦٥.

(٥) انظر : الكافي ٣ : ١٦٣ / ١ ، علل الشرائع ١ : ٣٤٨ / ٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٤٨٨ ، أبواب غسل الميّت ، ب ٣ ، ح ٦.

(٦) انظر : تهذيب الأحكام ١ : ٤٤٧ / ١٤٤٧ ، وسائل الشيعة ٢ : ٤٨٦ ـ ٤٨٩ ، أبواب غسل الميّت ، ب ٣.

٤٩١

منها من بدنه (١) ، فهو غسل جنابة ، فهو إذن مثل تغسيل الجنب الحيّ وتوضيئه إذا عجز عنه. ولمّا كان حينئذٍ لا يُكلّف بالنيّة اختصّ وجوبها بالمباشر ، على أن الظاهر أن المسألة إجماعيّة.

وإلّا الجِهاد ، فإنه أحد أركان الإسلام الخمسة ، كما استفاضت به الأخبار ، فهو عبادة كالأربعة الباقية ، ولا ينافيه أن غايته الدفع عن المسلمين ، فإنها الغاية الظاهرة ، وفي الحقيقة غايته حفظ الإسلام وهياكل التوحيد ، فهو من أعظم العبادات. لكن لمّا كان ذلك لا يُمكن إلّا بحفظ المسلمين عبّر الفقهاء بأن غايته حفظهم. فمن هنا يُمكن أن يدخل إنقاذ المسلم من الهلكة في قسم العبادات.

وإلّا السلام وردّه ، وتسميت العاطس وإجابته ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في أنها دعاء ، وكلّ دعاء عبادة ، بالكتاب (٢) والسنّة (٣) والإجماع.

وإلّا شكر النعمة إذا كان المنعم هو الله تعالى.

وقد أهمل ذكر ابتداء السلام وتسميت العاطس ، فإن كان لأنهما عبادة طالبناه بالفرق بين الابتداء والردّ ، وإلّا فَلِمَ أهملهما؟! وقد ذكر الردّ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن غايتهما غاية الجهاد ، بل هو فرد منهما ، وفيه من دفع المفاسد الدينيّة ما لا يخفى.

وهذا آخر ما أردنا إملاءه في هذه الرسالة ، وقد وفدتُ بها على باب مالك رقّي ورقّ الخلائق ، الخلف بن الحسن : عجّل الله فرجه فإن قبلها فطالما عفا عن المذنبين مثلي ، وإن ردّها فبجرائمي ، وهو غير متّهم في عدله ، وأنا أعوذ وألوذ برأفته من سخطه ، وبعفوه من عقابه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على باب الرحمة محمّد : وآله وسلم كما هم أهله.

__________________

(١) انظر : الكافي ٣ : ١٦٣ / ١ ، ٢ ، ٣ وسائل الشيعة ٢ : ٤٨٧ ، أبواب غسل الميّت ، ب ٣ ، ح ٢ ، ٣ ، ٤.

(٢) الفرقان : ٧٧ ، غافر : ٦٠.

(٣) الكافي ٢ : ٤٦٧ / ٥ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣ ، أبواب الدعاء ، ب ١ ، ح ٢ ، ٧ ، و ٢٨ ، أبواب الدعاء ، ب ٢ ، ح ١٤.

٤٩٢

وقع الختام بقلم مؤلِّفها أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : آخر نهار اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام السنة الثالثة والأربعين والمائتين والألف ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمَّد : وآله الطيِّبين الطاهرين ، وسلَّم تسليماً كثيراً.

تمَّت بعون الله وحسن توفيقه على يد العبد العاصي الآثم الجاني زرع بن محمَّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا الله عنهم بمحمَّد : وآله المعصومين.

٤٩٣
٤٩٤

الرسالة السابعة عشرة

أجوبة مسائل السيد حسين البحراني

٤٩٥
٤٩٦

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

وبعد :

فيقول الأقلّ الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : إنه قد ورد عليّ مسائل من السيّد العالم العامل التقيّ الوفيّ الصفيّ ، السيّد حسين بن الفردوسيّ : السيّد أحمد. ولعمري ، إنه قد استسمن ذا ورم (١) ، ولكنّ شدّة حرص السائل على طلب العلم حمله على ذلك ، فطمع في وابل برق خلّب ، والحكمة ضالّة المؤمن (٢) ، وإلّا فلست من رجال تلك الصناعة ، ولا من تجّار تلك البضاعة ، ولكن لا يسقط الميسور بالمعسور ؛ لأن أمره عليّ واجب الإطاعة ، فها أنا ذا أُشرع في المقصود معتصماً بباب الله الأعظم.

__________________

(١) انظر صبح الأعشى ١ : ٥٣٠ ، وفيه : ( استسمنت ).

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٨١ / ٨٢.

٤٩٧
٤٩٨

الوجه في جعل المسجد الأقصى غاية للإسراء

قال حرس الله ذاته المحمّديّة ـ : ( ما الوجه في الآية الشريفة ، آية الإسراء قال الله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (١) ، فجعل الغاية إلى المسجد وهو البيت المعمور ، كما ورد في ( العيّاشيّ ) (٢) وغيره (٣) مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرَّ على جميع العوالم بأسرها والجنَّة والنار ، فما العلّة في هذه الغاية؟ ).

أقول : الإسراء : هو السير في الليل كما هو معلوم من نصّ أهل اللغة (٤) ، فلا يسمّى السير في النهار إسراء ، وغاية مخروط ظلّ الأرض المعبّر عنه بالليل هو الفلك الثالث. وقد جاء في الأخبار أن الإسراء محدود ، فمنه ما وقع من المسجد الحرام إلى بيت المقدس خاصّة ، كما يشعر به بعض الأخبار (٥) ، وفي بعضها (٦) تفسير المسجد الأقصى بالبيت المعمور ، وفي بعض الأخبار (٧) أنه في السماء الرابعة.

فعلى الأوّل الأمر واضح ، حيث إن بيت المقدس هو نهاية الإسراء.

وعلى الثاني يكون غاية الإسراء أي السير في الليل الذي هو ظلّ المخروط ـ الفلك الرابع ، لكن بملاحظة خروج الغاية ، وما زاد على هذا ليس إسراء.

وقد علمت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالجماعة في المعمور صلاة الظهر يوم الجمعة (٨) ، فليس

__________________

(١) الإسراء : ١.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ : ١٧٨ / ٥٣١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٠٢ / ١ ، تفسير القمّيّ ٢ : ٩.

(٤) الصحاح ٦ : ٢٣٧٦ سرا ، لسان العرب ٦ : ٢٥٢ سرى.

(٥) الكافي ٨ : ٢١٨ / ٣٧٦ ، تفسير القمّيّ ٢ : ١٢ ـ ١٣.

(٦) الكافي ٣ : ٣٠٢ / ١.

(٧) تفسير العيّاشيّ ٢ : ١٣٧ / ٤٣ ، علل الشرائع ٢ : ١١٠ / ١.

(٨) الفقيه ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ / ٩٢٥.

٤٩٩

إذن ثمّة إسراء ، بل الإسراء قد انقطع دون ذلك ، ولم يبقَ سير ، بل السير يكون أيضاً إلى غاية ينقطع دونها ، ولا تبقى إلّا حركة جوهريّة ، فليس عند ربّك صباح ولا مساء.

هذا إن اعتبرنا مطلق الليل ، وإن اعتبرنا كمال الليل ، وهو الليل المعهود فذاك لا يجاوز الأثير ، بل ينقطع في الجملة دونها. وعلى هذا يختصّ الإسراء بمفارقته صخرة بيت المقدس ، فهي نهاية الإسراء وهو السير ليلاً.

وبعبارة اخرى : الإسراء : هو السير في الليل كما عرفت ، والليل أيضاً هو عالم الملك ، لما فيه من شوب ظلمة الجسمانيّات وإن ضعفت.

وقلت في بعضها ونهايتها : سيره صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى البيت المعمور الكائن في السماء السابعة وهو الضراح (١) أو في السماء الرابعة على اختلاف الروايات بلا تنافٍ. فإن الأوّل باطن الثاني ، والنسبة بينهما كما بين النفس الحيوانيّة الإنسانيّة والحواسّ الخمس الدماغيّة (٢) ، وهو أوّل الملكوت ، وهو من الجبروت كالساعة الفجريّة من الليل والنهار. وهناك ينتهي الإسراء وتظلّه الشمس التي هي حقيقة الشمس الحسّيّة الوجوديّة ، وهي حينئذٍ على دائرة نصف ذلك النهار ؛ ولذا صلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم الظهر ظهر الجمعة هناك ، لأنه جمعة ذلك الأُسبوع الجامع لمختصّات سائر أيّامه من أرضه ونباتها وأقواتها ، المخلوقة في يومين من اسبوعه وسماواته السبع.

وبالجملة ، فالإسراء مغيّا بما هو سير في ليل ، ولا تنافيَ بين تجديد الإسراء وكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ على جميع العوالم ؛ فالإسراء نهايته المسجد ، والمعراج عامّ أو خاصّ ببيت المقدس على اختلافه ؛ منه عامّ ومنه أعمّ ، ومنه خاصّ ومنه أخصّ ، والله العالم.

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٩.

(٢) وهي القوى الخمس الباطنة التي تنشأ من مقدَّمة الدماغ ، كما في الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة ٨ : ٢٠٥ ، وهي : ( مدركة الصور « الحس » ، والمصوِّرة « الخيال » ، والمتصرّفة في المدركات « متفكِّرة » ، ومدركة المعاني « المتوهِّمة » ، والحافظة « الذاكرة » ). للمزيد راجع الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، والإشارات والتنبيهات ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٥٠٠