____________________________________
تعالى شرهم تذكرة وعبرة ، ثم إن سنحاريب لبث سبع سنين ومات ، فاستخلف على ملكه بختنصر ، فعمل بعمله واستمر متباعدا عن بني إسرائيل ، حتى مات ملكهم ، فتنافسوا في الملك ، وقتل بعضهم بعضا ، وشعيا ينهاهم فلم يقبلوا ، فأوحى الله لشعيا قم في قومك أوح على لسانك ، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقضي شأن بني إسرائيل ، الذين رباهم بنعمته ، واصطنعهم لنفسه ، وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، وضرب الله لهم مثلا ثم قال : إنه مثل ضربته لهم ، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا أكله ، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى ، والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، وأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي بالبيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ، ويزوقون لي المساجد ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها ، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها ، لأذكر وأسبح ، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلينا فلم تنور صلاتنا ، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئاب ، في كل ذلك لا يستجاب لنا ، قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المحبين ، وأرحم الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم ، وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم ، والفعل من ذلك بعيد ، إلى أن قال : وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض ، أن أجعل النبوة في الأجراء ، وأن أجعل الملك في الرعاء ، والعز في الأذلاء ، والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء ، والعلم في الجهلة ، والحلم في الأميين ، فسلهم متى هذا؟ ومن القائم بها من أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون؟ فإني باعث نبيا أميا ليس أعجميا من عميان ضالين ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، واهب له كل خلق كريم اجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة مقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، واحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، أجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين قلوب مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمم متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المكر ، توحيدا لي ، وإيمانا بي ، وإخلاصا لي ، يصلون لي قياما وقعدوا ، وركعا وسجودا ، يقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والتحميد ، والمدحة لي والتمجيد لي ، في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، قربانهم دماؤهم ، وأنا جيلهم في صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، والله ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعيا من مقالته ، عدوا عليه ليقتلوه ، فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها ، واستخلف الله عليهم ملكا يقال له ناشئة بن أموص ، وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا ، ثم عظمت الأحداث وارتكاب المعاصي ،