(لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩) الموحدين (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) التوحيد أو الإنصاف (وَالْإِحْسانِ) أداء
____________________________________
القرآن تفصيلا ، كعدد ركعات الصلاة ، ونصاب الزكاة وغير ذلك ، فكيف يقول الله تبيانا لكل شيء؟ أجيب : بأن البيان ، إما في ذات الكتاب ، أو بإحالته على السنة ، قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أو بإحالته على الإجماع ، قال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، أو على القياس ، قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس فهذه أربعة طرق ، لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء بهذا الاعتبار. قوله : (لِلْمُسْلِمِينَ) تنازعه كل من هدى ورحمة وبشرى. قوله : (الموحدين) أي وأما الكفار ، فهو لهم خسران وعذاب وإنذار.
قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) هذه الآية من ثمرات قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) حتى قال العلماء : إن لم يكن في القرآن غير هذه الآية ، لكفت في البيان والهدى والرحمة ، لأنها آمرة بكل خير ، ناهية عن كل شر. قوله : (التوحيد) أي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وهذا التفسير وارد عن ابن عباس ، وفي رواية عنه أيضا : العدل خلع الأنداد ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأن تحب للمرء ما تحب لنفسك ، فإن كان مؤمنا ، تحب أن يزداد إيمانا ، وإن كان كافرا تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وفي رواية : العدل التوحيد ، والإحسان الأخلاص ، وكل هذا أفاده المفسر بقوله : (التوحيد والانصاف) أي في كل أمور ، فالانصاف في التوحيد ، اعتقاد أن الله متصف بكل كمال ، منزه عن كل نقص ، والانصاف في الاعتقاد ، نسبة الأفعال كلها لله ، ونسبة الكسب للعبيد ، خلافا للجبرية والمعتزلة ، فالفرقة الأولى نفت الكسب أصلا. وقالوا : العبد كالخيط المعلق في الهواء ، لا فعل له أصلا ، وتعذيب الله له ظلم ، وهؤلاء كفار. والفرقة الثانية قالوا : العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية ، وهؤلاء فساق ، وكلا المذهبين جور ، والانصاف نسبة الأفعال كلها لله ، خيرها وشرها ، ظاهرها وباطنها ، ولكن من الأفعال ما هو جبري ، وهذه لا كسب للعبد فيها ، ولذا لا يثاب عليها ولا يعاقب ، ومنها ما هو اختياري ، وهذه للعبد فيها نوع كسب ، ولذا يثاب عليه إن كان خيرا ، ويعاقب عليه إن كان شرا ، وهذا مذهب أهل السنة ، خرج من بين فرث ودم ، لبنا خالصا سائغا للشاربين ، والانصاف في العبادات ، عدم التفريط والإفراط فيها ، بل يكون بين ذلك قواما ، والانصاف في النفقات ، أن لا يسرف ولا يقتر ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) والانصاف بين عباد الله : يقسم لزوجاته ، وينصر المظلوم على الظالم ، ويعامل الخلق باللطف والرفق ، وغير ذلك.
قوله : (وَالْإِحْسانِ) أي مع الله ومع عباده ، فالإحسان مع الله ، أداء فرائضه على الوجه الأكمل ، والإحسان مع عباده ، أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك. قوله : (كما في الحديث) أي فقد سأل جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الإحسان ، فقال له عليه الصلاة والسّلام : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، والمعنى أن تعبد الله ملاحظا لجلاله ، كأنك تراه ببصرك ، وهذا مقام المشاهدة فإن لم تصل لهذه المرتبة ، فلاحظ أنه يراك وأنك في حضرته ، وهذا مقام المراقبة ، فمثل المشاهد كالبصير الجالس في حضرة الملك ، فأدبه من جهتين ؛ كونه رائيا الملك ، وكون الملك رائيا له ، ومثل المراقب كمثل الأعمى الجالس في حضرة الملك ، فأدبه من جهة ملاحظته ، كون الملك رائيا له.