والجرّ غير موضوعة لشيء من المعاني ، وإنّما وضعت إعرابا لتكون علامة وقرينة لإفهام خصوصيّة من خصوصيّات من صدر عنه الفعل وممّن وقع عليه الفعل ، أي خصوصية الفاعلية بالنسبة إلى مدخولها.
وبالجملة ، فكما أنّ كلّ واحد من حركات الإعراب من الفتح والكسر والضمّ يفيد خصوصيّة متعلّقة بمدخولها من دون أن يكون وضعا بالنسبة إليها ، فكذلك وضع الحروف بالنسبة إلى بيان خصوصية مدخولها ؛ إذ الفتحة إنّما تكون العلامة التي تفيد خصوصيّة مدخولها من المفعولية ، كما أنّ الكسرة تفيد جهة اخرى من الخصوصية فيه ، كالضمّة التي تفيد جهة ثالثة من الخصوصيّات.
فتكون هذه النتيجة بعينها موجودة في كلّ واحد من كلمات الحروف ، إذ كلمة (في) تفيد إرادة خصوصية بالنسبة إلى الظرفية غير ما تتحصّل من كلمة (من) من الخصوصيّة ، وكذلك سائر الحروف مع كثرتها من دون أن يكون لها وضع متحقّق ومعان مخصوصة ليصحّ أن يقال : إنّها موضوعة بإزاء تلك المعاني.
وملخّص الكلام أنّ هذا القائل التزم بأنّه لا وضع ولا مفهوم للحروف بحسب الواقع ونفس الأمر ، بل هذه الحروف إنّما لوحظت في الكلام للخصوصيّات والتزيين نظير تقارن الكلام بألف ولام الزينة.
وبعبارة موجزة : إنّ الكلام في مقام التخاطب بلحاظ البلاغة والفصاحة في بيان جهات من الخصوصيات ربّما يقترن بتلك الحروف للإشارة إليها ، كإشارة الحركات الإعرابيّة من الفتح والكسر والضمّ ، التي تكون علامات الفاعلية والمفعولية والمضاف إليه وأمثال ذلك.
ولكنّ الإنصاف أنّ هذا القول كالقول الأوّل يكون كطرفي الإفراط والتفريط من حيث البطلان ، إذ لا يخلو من المناقضة.
بيان ذلك : أنّه في صدر العنوان التزم بعدم مفهوم محصّل للحروف بالذات