يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) الآية [الزخرف : ٣٣] ، ثم قد جعل لكثير ممن ضل بهم قوم نحو الفراعنة ولكثير منهم وقد بغوا في الأرض ؛ إذ لو لم يكن البسط لفرعون لم يكن ليدعي الألوهية لكن الأول : طريق الفضل يفضل به ، والثاني : طريق العدل وما يجوز في الحكمة ، فعلى ذلك الإمهال ، يبين لك ما كان الله يأمر بقتل من لعله يؤمن لو أمهل بما ندب إلى القتال ، ولا يحتمل أن يأمر في قتل من ليس له قبض روحه ، وقد يبقى من به يهلك ويضل ، وإن قبض كثيرا منهم بما يضل به لو أبقى ؛ كما قال : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) [الكهف : ٨٠] ، والله أعلم.
وظنت الخوارج بهذه الآية أن كل من يرتكب كبيرة (١) يظهر منه كذبه فيما وعد أنه لا
__________________
(١) قال الإمام النووي ـ رضي الله عنه ـ في شرحه على صحيح مسلم : قال بعض العلماء : كل ما نص الله تعالى عليه أو رسوله وتوعد عليه أو رتب حدا أو عقوبة فهو كبيرة ويلحق به ما في معناه من المفسدة ، وفي الصحيح أنه جعل قبلة الأجنبية صغيرة.
وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة على عدة آراء كالتالي : الأول : أن كل شيء نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول والفقه وغيره وحكى القاضي عياض هذا المذهب عن المحققين وهو مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنه. الثاني : وهو رواية أخرى أن : الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ونحو هذا عن الحسن البصري.
الثالث : أن الكبيرة هي : كل ما وعد الله عليه بنار أو حد في الدنيا.
الرابع : وإليه ذهب أبو حامد الغزالي في البسيط أن الضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة إن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليها اعتيادا فهي كبيرة ، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تبغيض التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو كبيرة.
الخامس : أن كل ذنب كبر وعظم عظما يصلح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة قاله أبو عمرو بين الصلاح في فتاويه الكبيرة ، ثم بين أن للكبيرة أمارات منها : إيجاب الحد ، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن. والسادس : ذكره الشيخ أبو محمد محمد بن عبد السلام في كتابه القواعد : أنك إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على إحدى الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر ، فمن شتم الرب أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة أو ألقى المصحف في القاذورات فهو من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة ... إلى آخر ما ذكر. السابع : أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر ؛ وهذا ما صححه الإمام المفسر أبو الحسن الواحدي رحمهالله.
ثم إن الحكمة في عدم بيان بعض الذنوب هل هي من الصغائر أم من الكبائر أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر.
وقال العلماء : الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة وروى عن ابن عباس وعن عمر وغيرهما : لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار والصغيرة تصير كبيرة ـ