الكرم فيكون نقضا في الرتبة ؛ ولأن نسبة الأول إلى الثاني نسبة الضيف المحض إلى صاحب الهدية ، والكريم أشد عناية بضيفه المحض من غيره.
ووجه تفضيل الثاني انه امتثل الأوامر وقام في خدمة الآمر ، فكان أفضل من البطال القاعد والكسلان المتقاعد ، ولا نسلم أن مثل هذا يرى عمله مع الكرم ، لأن الحق سبحانه أول ما يوفق من يتفضل عليه للمعرفة والتبصير بآفات الأعمال ، فلا يرى غير كرم ذي الجلال ، وأما صاحب الهدية فهو ضيف خاص فهو أفضل من الضيف المجرد ، وأوفر حظا من العناية به.
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) [الحديد : ٢٢] إلى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢٣) [الحديد : ٢٣] هي عظيمة النفع لمن تأملها في التعزية عن المصائب ولحوق المكاره ، وتنبني على ذلك مقدمات :
الأولى : أنه ـ عزوجل ـ أزلي العلم.
الثانية : أنه ـ عزوجل ـ عام العلم بما كان وما يكون ، وما هو كائن من كليات العالم وجزئياته.
الثالثة : أن ما سواه ـ عزوجل ـ ممكن لذاته.
الرابعة : أن الممكن لذاته قد يكون حالا لغيره ، بأن يتعلق العلم الأزلي بوقوعه ، فيجب أو بعدمه فيمتنع.
إذا ثبتت هذه المقدمات فالعارف بها يعلم أن مصائبه واجبة الوقوع ، وكل واجب الوقوع لا ينبغي أن يحزن لوقوعه كالممتنعات ، ألا ترى أن العاقل لا يحزن لكون الجبل لم ينقلب له ذهبا ، أو ماء البحر لبنا أو عسلا ، أو أحجار الجبال كتبا نافعة ونحو ذلك لعلمه بامتناع ذلك عادة ، فكذلك ينبغي ألا يحزن / [٤١٤ / ل] لمصيبة أو مكروه لحقه ، لأن عدم وقوع ذلك كان ممتنعا.
واعلم أن الإنسان بين خير يرجوه أو شر يتوقعه ، وكل واحد منهما إما أن يحصل أو يفوت ، فهي أربعة ، فما كان من ذلك واجب الحصول فهو ممتنع الفوات ، وما كان ممتنع الحصول فهو واجب الفوات ، والممتنع لا ينبغي أن يحزن على فواته ، والواجب لا يفرح بحصوله ، إذ لا بد منه ، فالحزن أو الفرح المتعلق به تحصيل الحاصل ، وما كان ممكن الحصول والفوات لذاته فهو يرجع إلى أن يكون واجب الحصول أو ممتنعه لغيره ، فتخلص