(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢) [الأعراف : ١٧٢] تقرير لهم بالتوحيد والربوبية (قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] المشهور أن بلى حرف إيجاب يجاب به النفي ، فيقرر خلاف مضمونه ، فلست بربكم مضمونه سلب الربوبية ، وبلى قررت خلاف هذا السلب وهو إثبات الربوبية ونعم لكونها مقررة لمضمون ما قبلها لم تصلح هاهنا ، وإلا كان تقريرا لسلب الربوبية / [٢٠٠ / ل] وإنه كفر.
ويحكى أن ابن الأنباري (١) دعي في جماعة ليشهد على شخص ، فقال بعضهم للشخص : ألا [نشهد عليك؟ فقال : نعم ، فشهدوا عليه إلا ابن الأنباري امتنع ، فقيل له في ذلك ؛ فقال : هذه الشهادة لا تصح على موجب اللغة ؛ لأنه إنما قرركم على ألا] تشهدوا عليه ، كأنه قال : نعم لا تشهدوا علي.
واعلم أن حكم هذه الشهادة على موجب الفقه أنها تصح على عامي لا يفرق بين بلى ونعم دون عالم يفرق بينهما ، فلعل ابن الأنباري أخذ بالأحوط الذي لا يعترض فيه / [٩٤ أ / م] احتمال خلاف ، أو أنه أراد بيان هذا الحكم اللغوي لأصحابه.
وقد ذكر ابن الأنباري في بعض كتبه أن بلى مركبة من بل الإضرابية ولا النافية ، ويتضح معناها في مواردها مطردة على ذلك ، فإذا وقعت في جواب السلب كان معناها سلب سلب ما بعدها ، وسلب السلب إيجاب ؛ فمعناها الإيجاب ، مثاله في هذه الآية لما قيل : (ألست بربكم قالوا بلى) أي بل لا لست ربنا وهو في قوة. بل أنت ربنا ؛ لأن لا للسلب و «لست» للسلب وسلب السلب إيجاب ، فسلب سلب الربوبية إيجاب لها ، فاعلم ذلك ، ثم في الآية سؤالان أحدهما أنه لو سبق للناس مقام شهدوا فيه بالتوحيد ، وأخذ إقرارهم به لكانوا الآن يذكرون ذلك ، وجوابه : أنهم كانوا حينئذ نفوسا ، أو أرواحا مجردة ، والذكر إنما هو بحاسة بدنية أو متعلقة بالبدن ، والبدن وقواه ومتعلقاته إنما حدث بعد ذلك ، فلذلك لم يذكروا ذلك المقام الآن ، وإنما هذا السؤال كمن يقول : لو كان زيد حضر عند السلطان لكان ثوبه عليه ، وهو غير لازم لجواز حضوره مجردا عن لباس ،
__________________
(١) هو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار أبو بكر الأنباري إمام في اللغة والأدب ولد سنة ٢٧١ ه وتوفي سنة ٣٢٨ ه انظر البحر المحيط [٥ / ١٩٢] والأعلام [٧ / ٢٢٦].