لا يرى اللطيف.
فإن قيل : فنحن نرى النار التي هي مادتهم فما بالنا لا نراهم؟!
قلنا : التخليق يلطف المادة ، ألا ترى أن البشر ألطف من الطين الذي هو مادته ، وكذلك كل فرع هو ألطف من أصله كالزيت من الزيتون ، والعصير من العنب ، والدبس من الرطب ، ونحو ذلك.
(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) [الأعراف : ٢٨] يحتج بها المعتزلة ، ووجه احتجاجهم أنه كما لا يأمر بالفحشاء لا يريدها.
وقال الجمهور : بل هو يريدها ويقدرها بتقدير أسبابها ، وخلق دواعيها والصوارف عنها وإن لم يأمر بها ، ولعل أصل الخلاف أن المعصية خلاف الأمر عند الجمهور ، فلا ينافيه موافقة الإرادة في المعصية ، وعند المعتزلة هي مخالفة الإرادة ، فلو كان مريدا للمعصية لكان المكلف عاصيا من حيث هو مطيع ، وأنه محال.
ومذهب الجمهور في أن الطاعة والمعصية دائران مع الأمر والنهي أشبه باللغة والنظر ، وهو الصواب.
ويحكى أن الشيخ أبا إسحاق الأسفرائيني دخل على الصاحب بن عباد ، وعنده القاضي عبد الجبار الهمذاني ، فلما رآه القاضي قال تعريضا به : سبحان المنزه عن الفحشاء ، فقال الشيخ أبو إسحاق : سبحان من يفعل ما يشاء ، فاستوفى كل واحد منهما حجته في خمس كلمات ، واعلم أن هؤلاء الذين قالوا في فاحشتهم : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) [الأعراف : ٢٨] صدقوا في تقليد آبائهم وكذبوا على ربهم.
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) [الأعراف : ٢٩] يحتمل أمرين : أحدهما : إثبات المعاد ، أي كما بدأكم أي : ابتداء خلقكم بعد العدم الأصلي ، كذلك يعيدكم بعد العدم الطارئ على وجودكم ، وهو أيسر ، ولا فرق غير أن الإنسان في ابتداء نشأته يتدرج في الأطوار السبعة. نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخرها ، وفي إعادته لا يتدرج في الأطوار ، غير أن هذا ليس مؤثرا في حكم القدرة التامة ، وقد قيل : إن عند إرادة البعث تمطر السماء أربعين يوما ماء كمني