(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨) [الأنعام : ٢٨] يحتج بها على أن الله ـ عزوجل ـ يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون على تقدير لو كان كيف كان يكون ، وهو كذلك ، والاستدلال مطابق ، وأصله معرفة كيفية علم الغيب ، وهو واضح ، لكن شرطه لا يوجد إلا في الله ـ عزوجل ـ فلذلك استبد به سبحانه وتعالى ، وأما في هذه المسألة الخاصة ، فلأنه ـ عزوجل ـ علم أنهم بموجب طباعهم وفطرهم التي فطرهم عليها / [٧٤ ب / م] من الأشر والبطر والاستكبار عن الحق وغلبة الشهوات والأهواء عليهم لو ردوا من عذاب الآخرة إلى / [١٥٨ / ل] الدنيا لعادوا إلى كفرهم ، مع أنه ينسيهم أمر المعاد واليوم الآخر وما جرى لهم في النار ، ومثل هذا واقع في الدنيا كثيرا ، وهم المفسدون واللصوص ، ونحوهم إذا ظفر بهم ، ليقتلوا أو يقطعوا ، أعطوا التوبة من فسادهم ، فإذا تركوا عادوا إلى شر مما كانوا عليه ، وكذلك لو فرض أن الحية أو الفأرة تابت عند القتل من اللدغ والفساد لعلم كذبها ؛ وأنها إن ردت عادت لغلبة طبعها الفطري عليها.
(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩) [الأنعام : ٢٩] وفي آية أخرى (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧) [المؤمنون : ٣٧] اعلم أن الناس اختلفوا في المعاد ، فمنهم من أثبت المعاد الجسماني والروحاني وهم المسلمون ومن تابعهم ، و [منهم] من أثبت الروحاني دون الجسماني وهم الفلاسفة والنصارى ، ومنهم من أنكرهما جميعا وهم هؤلاء الدهرية الملحدة ؛ قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر فهو باق بعدنا ، ولا رجعة لنا. وتوقف جالينوس في هذه المذاهب.
أم المعاد الجسماني دون الروحاني فلم نعلم به قائلا ؛ لاستحالته وقد قرر الله ـ عزوجل ـ براهين المعاد في مواضعها ، ونحن الآن إن شاء الله ـ عزوجل ـ نشير إليها جملة لتعرف ، ثم نذكرها مفصلة كلما مررنا بشيء منها ، وهي على أضرب أحدها : قياس الإعادة على الابتداء نحو : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) [الأعراف : ٢٩].
(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤) [الأنبياء : ١٠٤] ، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَ