اكتب القدر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١) وقد أخبر أنه قدر المقادير وعرشه على الماء. وأخبر في هذا الحديث أنه قدرها في أول أوقات خلق القلم ، فعلم أن العرش سابق علي القلم ، والقلم سابق على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فادعى هذا الجهمى أن العرش مخلوق بعد خلق السموات والأرض ، ولم يكفه هذا الكذب حتى ادعى الإجماع عليه ليتأتى له إخراج الاستواء عن حقيقته.
الوجه العاشر : إن الاستيلاء والاستواء لفظان متغايران ، ومعنيان (مختلفان) فحمل أحدهما على الآخر إن ادعى أنه بطريق الوضع فكذب ظاهر ، فإن العرب لم تضع لفظ الاستواء للاستيلاء البتة ، وإن كان بطريق الاستعمال في لغتهم فكذب أيضا ، فهذا نظمهم ونثرهم شاهد بخلاف ما قالوه ، فتتبع لفظ استوى ومواردها في القرآن والسنة وكلام العرب هل تجدها في موضع واحد بمعنى الاستيلاء؟ اللهم إلا أن يكون ذلك البيت المصنوع المختلق ، وإن كان بطريق المجاز القياسي فهو إنشاء من المتكلم بهذا الاستعمال فلا يجوز أن يحمل عليه كلام غيره من الناس فضلا عن كلام الله وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم يوضحه :
الوجه الحادى عشر : إن القائل بأن معنى استوى بمعنى استولى شاهد على الله أنه أراد بكلامه هذا المعنى. وهذه شهادة لا علم لقائلها بمضمونها ، بل هي قول على الله بلا علم ، فلو كان اللفظ محتملا لها في اللغة وهيهات ، لم يجز أن يشهد على الله أنه أراد هذا المعني بخلاف من أخبر عن الله تعالى أنه أراد الحقيقة والظاهر ، فإنه شاهد بما أجرى الله سبحانه عادته من خطاب خلقه بحقائق لغاتهم وظواهرها كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم : ٤) فإذا كان الاستواء في لغة العرب معلوما كان هو المراد لكون الخطاب بلسانهم ، وهو المقتضى لقيام الحجة عليهم ، فإذا خاطبهم بغير ما يعرفونه كان بمنزلة خطاب العربي بالعجمية.
__________________
(١) تقدم.