فعمر به البلاد وأحيا به العباد ، وإذا أراد بهم شرا أمسك عنهم ذلك الأثر فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن ، ولهذا إذا أراد الله سبحانه أن يخرب هذه الدار ويقيم القيامة أمسك عن أهلها أثر هذا الاسم وقبضه شيئا فشيئا ، حتّى إذا جاء وعده قبض الرحمة التي أنزلها إلى الأرض ، فتضع لذلك الحوامل في بطونها وتذهل المراضع عن أولادها فيضيف سبحانه تلك الرحمة التي رفعها وقبضها من الأرض إلى ما عنده من الرحمة فيكمل بها مائة رحمة فيرحم بها أهل طاعته وتوحيده وتصديق رسله وتابعيهم.
وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو بهوائه ، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله «سبقت رحمتى غضبي» فالمسبوق لا بد لاحق وإن أبطأ ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز.
الوجه العشرون : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد أقسم قسما صادقا بارا «إن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» (١) وفي هذا إثبات كمال الرحمة ، وإنها حقيقة لا مجازية ومر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بامرأة أصيبت في السبي وكانت كلما مرت بطفل أرضعته فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟» قالوا لا يا رسول الله وهي قادرة على أن لا تطرحه فقال : «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٢) فإن كانت رحمة الوالدة حقيقة فرحمة الله أولى بأن تكون حقيقة منها ، وإن كانت رحمة الله مجازا فرحمة الوالدة لا حقيقة لها (٣).
__________________
(١) أخرجه أبو داود (٣٠٨٩) مطولا وفيه : «فو الذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ، أرجع بهن ... الحديث وهو ضعيف الإسناد ، وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود» وما سيأتي يغني عنه.
(٢) رواه البخارى (٥٩٩٩) ، ومسلم في (التوبة : ٤ / ٢٢) من حديث عمر بن الخطاب.
(٣) ونقل الحافظ في «الفتح» كتاب «التوحيد» باب : قول الله] تبارك وتعالى : (قُلِ) ـ