بنفسه ، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه ، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به داوم التناسل وانتفاع الزوجين ، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه ، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم وانحل نظامها ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير ، والعزيز والذليل ، والعاجز والقادر ، والراعي والمرعي ، ثم أفقر الجميع إليه ، ثم عم الجميع برحمته.
ومن رحمته أن خلق مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والطير والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.
وتأمل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (الرحمن : ١ ـ ٤) كيف جعل الخلق والتعليم ناشئا عن صفة الرحمة متعلقا باسم الرحمن ، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٧٨) فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة ، إذ مجيء البركة كلها منه ، وبه وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه وكل ما أخلي منه نزعت منه البركة ، فإن كان مذكى وخلى منه اسمه كان ميتة ، وإن كان طعاما شارك صاحبه فيه الشيطان ، وإن كان مدخلا دخل معه فيه ، وإن كان حدثا لم يرفع عند كثير من العلماء ، وإن كان صلاة لم تصح عند كثير منهم.
ولما خلق سبحانه الرحم واشتق لها اسما من اسمه ، فأراد إنزالها إلى الأرض تعلقت به سبحانه فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال : ألا ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك؟ وهي متعلقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل ، وكان تعلقها بالعرش رحمة منه بها ، وإنزالها إلى الأرض رحمة منه بخلقه ، ولما علم سبحانه ما تلقاه من نزولها إلى الأرض