وإذا أردت أن تعرف بطلان هذا القول فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة ، فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلىاللهعليهوسلم وأنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمي وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا ، وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار ، وبسط الأرض وجعلها مهادا وفراشا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، اطلع الفواكه والأقوات والمرعى ، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل ، والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها ، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان.
فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته ، واشتق (لنفسه) منها اسم الرحمن الرحيم. وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته ، وأوسع المخلوقات عرشه ، وأوسع الصفات رحمته ، فاستوى على عرشه الّذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابا ، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه ، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة ، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها ، فبرحمته ؛ خلقت ، وبرحمته عمرت بأهلها ، وبرحمته وصلوا إليه ، وبرحمته طاب عيشهم فيها ، وبرحمته احتجت عن خلقه بالنور ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ومن رحمته إنه يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ، ومن نفسه