قول الغلاة الذين يدعون أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأفعال كلها مجاز ، فهل كانت الطبيعة والاستعمال والألسن معطلة عن استعمال تلك المجازات حتى أحدث لها وضع ثان ولا ريب أن الذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يتصوروا لوازم قولهم ، ولو تصوروه حق التصور لما تكلموا به.
الوجه السادس والثلاثون : مما يبين بطلان هذا التقسيم أن أصحابه متنازعون في أشهر الكلام وأظهر استعمالاته نزاعا كثيرا لا يمكن له الحكم لطائفة على طائفة ، فلو كان الفرق الّذي ادعيتموه ثابتا في نفس الأمر أمكن الحكم بينكم مثال ذلك أن العام المخصوص إما أن يقال كله حقيقة ، وإما أن يقال كله مجاز وإما أن يقال بعضه حقيقة وبعضه مجاز ، سواء قيل أن التخصيص المتصل حقيقة والمنفصل مجاز والباقي حقيقة ، أو قيل الاستثناء وحده حقيقة دون سائر المنفصلات ، فأي قول من هذه الأقوال قبل على تقدير التقسيم إلى الحقيقة والمجاز فهو باطل إلا قول من جعل الجميع حقيقة ، فيلزم بطلان التقسيم على التقديرين.
بيان ذلك أن الذين قالوا العام المخصوص كله حقيقة ، وهم أكثر العلماء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ، بل أكثرهم أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولم يذكروا في ذلك نزاعا واحتجوا بحجج تستلزم نفي المجاز.
قال الشيخ أبو إسحاق الأسفرائيني (مسألة) في العموم إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أو مجازا؟ فاختلف الناس في ذلك : فذهبت طائفة إلى أنه يكون حقيقة فيما بقى سواء خص بدليل متصل كالاستثناء ، أو بدليل منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك ، قال : وهذا مذهب الشافعي وأصحابه ، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ؛ قال : وذهبت طائفة إلى أنه يكون مجازا في الثاني ، وسواء خص بدليل متصل أو منفصل. وهذا مذهب المعتزلة بأسرها وهو قول عيسى بن أبان وأكثر أصحاب أبي حنيفة. وحكى بعض الأشعرية أنه مذهب الأشعري أيضا ؛ وذهبت طائفة إلى أنه إن خص بدليل متصل كان حقيقة في الباقي ؛ وإن خص بدليل منفصل كان مجازا. ذهب إلى هذا الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة.