ولنحلل المثال الأول ، أعني قولنا : المادة حادثة. إنّها قضية يقينية للإسلاميين ، يقضون بها عن طريق الحسّ والعقل معاً بقوله :
ـ المادة متغيّرة.
ـ وكل متغيّر حادث.
إذن فالمادة حادثة.
أمّا الحسّ ، فهو يستخدم في غالب القضايا لنيل مفرداتها ، سواء أكانت ممّا يناله الحسّ بلا واسطة ، أم مما يناله بعد تعمّل. وفي هذه القضية ، إن كون المادة موجودة في الخارج ، أمر ملموس للحسّ (١) ، حتى التغيّر والتبدل ـ إن أُريد منهما ما يدركه عامة الناس ـ يؤخذان من الخارج.
نعم ، ما يدّعيه أصحاب القول بالحركة الجوهرية للعالم ـ جواهره وأعراضه ـ ممّا يدعمه البرهان وتثبته الأدلّة الفلسفية (٢) ، لا الحسّ.
وبعبارة أُخرى : إنّ للحركة والتبدل مرتبتين ، مرتبة يدركها الحسّ ويقف عليها عامة الناس ، وهي التغير الملحوظ ليلاً ونهاراً في الأرض وما عليها والسماء وما فيها. ومرتبة يدركها العقل بالبرهان الفلسفي ، وهو أن العالم بجوهره وحقيقته ، في تغيّر ذاتي ، وسيلان واقعي ، كالنبع المتدفق من مكان ليصبّ في مكان آخر. فالصغرى على المرتبة الأولى حسيّة ، وعلى الثانية عقلية مبرهنة.
وأمّا العقل ، فيستخدم في القضاء بالكبرى ، ببيان أنّ التغيّر عبارة عن الوجود بعد العدم ، الحصول بعد ما لم يكن ، وهذا هو نفس الحدوث وعينه ، فيكون ـ إذن ـ كل متغيّر حادث.
ثمّ يقوم العقل بعملية أُخرى وهي استنتاج حكم الأصغر (المادة) من الحكم على الأكبر ، لأنّ الأصغر من مصاديق الأكبر ، فلو كان الأكبر محكوماً بحكم عام ، فهو يشمل كل فرد من مصاديقه ، فالمادة من مصاديق المتغير ، فهي أيضاً حادثة.
__________________
(١) ولو عن طريق إحساس عوارضها ، من اللون والريح والطعم والملمس ... بناءً على ما هو الحق من أنّ الحس لا ينال الجوهر (المادة) مباشرة ، وإنّما ينالها بواسطة إحساس عوارضها.
(٢) وسيوافيك ذلك في الفصل الرابع عند البحث عن أداة العقل من أدوات المعرفة.