الوسطى بين السفسطة الّتي تريد أن تضرب على الحقائق بقلم عريض وعلى كل ما في الكون من وجود وثبوت ، على الإطلاق ، او باستثناء نفس الإنسان وذهنه وتفكيره ؛ والفلسفة ومذهب اليقين الّذي مشى عليه سقراط وأساتذته وتلامذته ، وتبنوا وجود الحقائق وإمكان الوصول إليها بالمنطق السليم.
قالوا : إنّ الطرق الّتي اتّخذها الإنسان لنفسه للوصول إلى الواقع ، لا تعطيه يقيناً ولا اطمئناناً ، إذ الحسّ والعقل خاطئان في إدراكها ـ بلا شك ـ في موارد شتّى ، وإن المنطق الأرسطي لا يعصم فكر الإنسان عن الخطأ. فالأوْلى ، تحفّظاً على كرامة الواقع ، هو التوقف في الرأي ، والسكوت دون الواقع ، بلا فرق في ذلك بين المسائل الطبيعية وغيرها(١).
ولكن هذا المذهب لم يعمّر طويلاً ، فخمدت جذْوته إلى القرن السادس عشر ، عند ما قام الغرب بحضارته الصناعية ، ونشطت العلوم الطبيعية ، واكتشفت النواميس الماديّة. عند ذلك أُحيي مذهب الشك من جديد ، واستأنف نشاطه بأساليب مختلفة ، وغدا ما أفناه الدهر من أفكار الشكاكين اليونانيين غضّاً طرياً نابضاً بالحياة الّتي بعثها فيه رجال نظراء «باركلي» و «شوبنهاور». فصار الشك في إمكان الوصول إلى الواقع الموضوعي في الغرب شعاراً للمنكرين.
وقد احتج منهج الشك الحديث ـ الّذي ورث أُصوله من «پيرون» ـ بجملة من الشبهات نذكرها فيما يلي.
__________________
(١) وقد نقل عن پيرون بطل منهج الشك أنّه أثبت بحجج عشر ضرورة الشك المطلق ، وأن كل قضية من القضايا تحتمل وجهين : الإيجاب والسلب. وأهمّ تلك الأدلّة أنّ العلوم الإنسانية تخضع لعوامل خارجية وداخلية ، لها دور في تبلور الخارج في ذهن الإنسان. ولأجل ذلك لو تبدلت تلك الشروط والعوامل ، لتبلور الخارج على المَدارك بشكلٍ آخر. وأمّا الحقيقة الواقعية الموضوعية ، فهي خفيّة على الإنسان.
وبعبارة أخرى : كان رئيس الشكّاكين الأغارقة يردد هذه المقولة : إنّ من الممكن أن يكون للأشياء كيفية خاصة ، غير أنّا لا ندركها على ما هي عليه ، بل ندركها حسب الدور الّذي تلعبه الظروف والشرائط الزمانية والمكانية في وقوفنا عليها. وعلى ذلك فلا يمكننا الحكم على معرفة بالخطإ والصواب ، لأنّنا نفقد الميزان الّذي يعيّن حدودهما.
وهذا عين ما تمسَّك به النسبيون من الفلاسفة الغربيين في إثبات نسبيّة المعرفة ، كما سيوافيك.