الدينية من أساسها ، بل سبباً لإنكارها. وأقصى ما كان لدى المنصفين منهم (!) أنّها لا تقع في إطار المعرفة حتّى يعلم صدقها أو كذبها.
يلاحظ عليه أنّ هذا التحول كان ينبغي أن يكون دافعاً لإعادة التحقيق في العوالم الغيبية لا الإعراض عنها وضرب الكل بسهم واحد. فكما أنّ لتشخيص الحق عن الباطل في العلوم الطبيعية والفلكية معايير صحيحة ، فكذلك للعلوم الإلهية والميتافيزيقية معايير راسخة يتميز بها الحق عن الباطل. غير أنّ الإنسان الثائر على القديم والقدماء والآثار الباقية منه ، يموج في غلوائه ولا يمكنه الإمعان والسماع : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)(١).
انظر إلى بطرس بيل (المتوفّى عام ١٦٧٤ م) كيف يغتر بمعلوماته الضئيلة الّتي لم يبق منها في عصرنا هذا إلّا صبابة في إناء ، ويقول : «الإلحاد أفضل من التمسك بالأضاليل» ، يريد بها الأديان والمعتقدات السماوية. ومثله في الغرور ، البارون هولباخ الألماني (٢) ، يقول في كتابه «نضال الطبيعة» : «إنّ كل شيء محصور في الطبيعة ، وإن كلّ ما يتخيل وراءها ، وهمٌ في وهم» (٣).
هذه العبارات ونظائرها تعرب عن أنّ المنكرين ركبوا مركب العصبية ، وأدلوا لجامها ، وألقوا حبلها على غاربها ، تذهب بهم إلى مهالك الغواية ، ومساقط الضلالة. ولأجل ذلك ترى أنّ المنصفين من المحققين يحقّرون علومهم ، ويتواضعون بها أمام هذا الكون العظيم ، مصدّقين قوله جلّ وعلا : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٤).
* * *
__________________
(١) هود : ٢٠.
(٢)hcabloH پول هنري هولباخ ، (١٧٢٣ ـ ١٧٨٩ م) يرى أنّ الإنسان خير بطبعه لكنه ينحرف بالتربية. عارض الديانة المسيحية وأيّد وجهة النظر الطبيعية المادية.
(٣) على أطلال المذهب المادي : ١ / ٣٠٢.
(٤) الإسراء : ٨٥.