كان كذباً ، وما ذاك إلّا لأنّ الأول مطابق للواقع المتحقق في ظرفه ، والآخر مخالف له.
وكون شيء غير موجود في زمان الإدراك لا يجوّز إنكار وجوده مطلقاً حتّى في ظرفه.
فالإنسان الحاكم بالحكم في قضية تاريخية ، يعطف نظره إلى الوقائع السابقة المندثرة ، فيحكي عنها حكاية صادقة أو كاذبة (١).
الشبهة الرابعة : إنّ هذا التعريف ينبع من النظر إلى الكون نظرة جامدة فيتخيل أنّ عالم الطبيعة جامد ، وثابت غير متغير ، ولذلك عرفوا الحقيقة بأنّها عبارة عن مطابقة الذهن للعين.
وأمّا على القول الّذي تتبناه الفلسفة الديالكتيكية من أنّ الكون لما يزل متبدلاً متغيّراً ، وأنّه لا يبقى على حالة واحدة ، فكيف يمكن أن يكون ملاك الحقيقة تطابق الذهن والعين ، فإنّ العين يذهب أو يتغيّر ويتبدّل ولا يبقى حتّى تطابقه القضية الموجودة في الذهن.
والجواب عنها بوجهين :
١. لو صحّ هذا الإشكال ، للزم بطلان جميع القضايا الحاكية عن الخارج ، إذ لا شكّ أنّ هناك قضايا علمية وعرفية يريد الإنسان بها شرح الخارج وبيانه ، فلو كان الخارج على وجه لا يستطيع الذهن أن يحكم عليه بشيء ، للزم بطلان كل الأحكام الصادرة عن الإنسان ، لأنّ كل موضوع يتبدل قبل الحكم عليه. فلا معنى لقولنا ـ مثلاً ـ : هذه التفاحة طيبة الرائحة ، لو فرضنا تغيّر الموضوع وتبدّله.
٢. إنّ التحول والتغيّر ، ليس بمعنى تبدّل الخارج إلى موضوع مغاير له من جميع الجهات ، وإنّما التغيّر في الطبيعة الثانية أشبه بتعاقب الأمثال. فالتفاحة
__________________
(١) هذه الإشكالات الثلاثة ذكرها «فيليسين شاله» في كتابه «الفلسفة العلمية» ، الفصل العاشر في قيمة العلوم وحدودها : ٢٢٣.