اللاشعور ، فأقصى موضوعية يمكن أن تضفى عليها هي أنّها معبّرة عن تلك الدوافع اللاشعورية. وأمّا أنّها تعبّر عمّا وراءها من الواقعيات الخارجية ، فلا ، لأنّ المفروض أنّ كل العناصر الشعورية تعتمد على هذه العناصر الخفية الّتي لا نشعر بها ، وليست أعمالنا وآراؤنا ـ بزعمهم ـ إلّا انعكاساً محرّفاً عنها ، فهي الّتي تحدد محتويات الشعور ، وبالتالي تتحكم في كل أفكار الإنسان وسلوكه.
وعلى هذا الأساس ، فالفكر والبرهنة والاستدلال ، أدوات طيّعة للغرائز الجنسية والشهوات الجامحة ، وليست جهود الفلاسفة وأتعاب العلماء ، إلّا إظهاراً لتلك الغرائز ، وتسامياً بها إلى منطقة الشعور الّتي تشكّل الطابق العلوي من شخصية الإنسان ، كما أنّ العناصر اللاشعورية تشكل الطابق الأرضي الأساسي الّذي يقوم عليه ما فوقه.
فالإنسان الساذج لا يرى من الإنسان إلّا القسم العلوي من العقل ، ويظن أنّه نفس شخصيته وتمامها ، ولكنه غافل عن الطابق الأرضي ، والقسم الأساسي الحامل لما فوقه ، والمهيمن عليه والمدير لدفته. وهذا تماماً كمن يَدْخُل معملاً كبيراً فيرى هناك أجهزة وآلات فعّالة ، فيتخيل أنّها تمام المعمل ، ولكن عند ما يشار إليه بالتوجّه إلى قسم القيادة المختفي عن الأنظار ، يلتفت إلى أنّ كل ما شاهده من حركة وفعّاليّة في القسم الظاهر فإنّما هو أداة طيّعة بيد غرفة القيادة ، وكل ما في المصنع ـ في الحقيقة ـ هو ما في القيادة المسيطرة على جميع الآلات ؛ «وكل الصّيد في جوف الفراء».
فإذا كانت آراؤنا وأفكارنا وتصرفاتنا ، كالقسم الظاهري من المعامل ، فهي حينئذٍ مدارة بالغرائز ، ومتحركة عن الشهوات ، الّتي هي كغرفة القيادة في المعمل ، وليست تعبيراً عن الحقيقة والواقع. بل ربما كانت الحقيقة على خلاف تلك الرغبات والشهوات اللاشعورية المتحكمة بعقلنا. وليس هناك أي ضمان للتوافق بين قوانا العقلية اللاشعورية ، والحقيقة الواقعية. ونتيجة ذلك إنكار الواقع الموضوعي أو على الأقل الشك في الحقائق والواقعيات.
فهذه النظرية النفسية الّتي شغلت بال الكثيرين من علماء النفس والاجتماع ساقطة من جهتين كما عرفت ، فهي من جانبٍ معاول هدّامة للمثل الإنسانية