هو رموز قيّمة عن الخارج ، ووسائل لتأميل الحياة. وأمّا كونه معرّفاً للواقع على ما هو عليه ، وكاشفاً عنه ، فلا ، لما عرفت من دور الجهاز الحسيّ في كل فرد في عملية اكتساب الصور من الخارج.
وكما أنّ للحسِّ دوراً خاصّاً في نقل الصور عن الخارج ، فهكذا للجهاز العقلي الفكري دور خاص في اكتساب المعقولات من مقدماتها. فكل ما يكتسبه العقل عن طريق البرهنة والاستدلال ، فإنّما هو معتبر بالنسبة إلى الجهاز الذهني الّذي أدركه ، بمعنى أنّ مقتضى تحليل المقدمات الموصلة إلى النتيجة في ظلّ كيفية صنع ذلك الجهاز ، وكيفية عمله ، والظروف المحيطة به حين البرهنة والاستدلال ، هو تلك النتيجة. وأمّا أنَّ تلك النتيجة هي نفس الموضوعية الواقعية ، حتّى تكون حجة على من لا يماثل جهازه الفكري جهازنا ، أو تُغايِرُ ظروفُه ظروفَنا ، فلا.
وعلى هذا ، تصبح العلومُ الإنسانية ، مفردُها ومركَّبُها ، تصوُّرُها وتصديقُها ، معرفةً نسبية ، تحكي عن الواقع حكايةً ما ، لا حكاية مطلقة. ولذا لو طرأ تغيُّر ما في الجهاز أو الظروف الحاكمة عليه ، لانعكست الحقيقة على تلك المدارك ، بغير ما كانت عليه.
هذه هي حقيقة النسبية الفلسفية ، وأصحابها وإنْ كانوا يحملون شعار الحقيقة ، ولكنه مجرّد شعار لا حقيقة وراءه ، وما هو إلّا صورة أخرى عن مذهب الشك ، تستسيغها أذهان أبناء العصر.
فأنصار الشك الحديث يُسدلون شعار الحقيقة والمعرفة الجزمية ، غطاءً على الشك المغمور تحت هذا الشعار ، بينما أنصار الشك القديم يتجاهرون بما يتبنونه بلا ستر وغطاء.
وعلى ذلك ، فإنّا نسأل هؤلاء ، الذين يَعُدّون أنفسهم من الواقعيين وأصحاب الجزم واليقين : إذا لم تكن الصُّوَر الذهنية ، والقضايا البرهانية ، حاكيةً عن الواقع ، بل رموز عنه ، فمن أين نعلم بصحة القواعد العلمية الطبيعية والفيزيائية والرياضية؟ ، وما ذكرتموه لا يؤدّي إلّا إلى إنكار العلم بالخارج ، والانسلاك في عداد السوفسطائيين.