__________________
(الثالثة) ـ : في بيان وجه كون طاعة الباري تعالى شكرا عقلا وبيان وجوب امتثال أمره تعالى ونهيه.
أمّا الأولى : فقد وقع الخلاف فيها :
فأنكرت الأشعرية وجوب النظر عقلا وقالت : ليس إلّا بالسمع.
وأجيب عليهم : بلزوم الدور إذ لا يعرف صدق الرسل ووجوب امتثال أمرهم ونهيهم ، وكذا المرسل إلّا بوجه إذ صيغتا الأمر والنهي لا تقتضيان وجوب الامتثال على المأمور والمنهي وإلا لزم أن أمر بعضنا لبعض يوجب الامتثال وكذا النهي ، والمعلوم خلافه.
وجعل أصحابنا وجه وجوب النظر لذلك قولهم : الشكر واجب عقلا للضرورة فيجب النظر في معرفة المنعم لتأدية شكره ، وأنه تعالى لا يترك عباده هملا فلا بدّ من بيان كيفية ما به يشكر فأقول :
الذي يدركه العقل : أن وجوب النظر عقلا موقوف على بعثة الرسل المنذرين فإنه إذا انتصب أحد وأخبر أنه رسول مالك قادر منعم يعاقب من عصاه بعذاب شديد وقال : أنا نذير لكم بين يدي عذاب شديد فإنه يجوز صدقه ، وإذا كان مع ذلك معروفا بالأمانة والثقة ومكارم الأخلاق من بيت رفيع متنزّها عن الرذائل فإنه يوجب رجحان صدقه بل قد يفيد الجزم فالعقل يقضي بوجوب النظر في صدق ما ادّعاه لأنّ دفع الضرر المظنون ، فكيف بالمجزوم به واجب عقلا ، وإلّا كان غير المجتنب للضرر ظالما لنفسه والظلم قبيح ضرورة.
وأما القول بأن وجه وجوب النظر هو أنه قد وصلت إلى العباد نعم وشكر النعم واجب بضرورة العقل فيجب علينا النظر لمعرفة المنعم ليشكر : فهو ضعيف لا يثمر المطلوب من وجوب النظر ولا يفيد الظن ، فإن في الشاهد أن من تابع الإحسان إلى أحد وكثر إنعامه عليه فإنما يقضي العقل بحسن المكافأة ضرورة وبقبح الإساءة إليه كذلك.
وإذا ثبت وجوبه شرعا مع كونه حسنا ضرورة فلعلّه سبب إطلاقهم القول بوجوب الشكر بضرورة العقل ، فإذا الكفر في الشاهد والشكر : ضدّان ، فالإساءة إلى المنعم قبيحة ضرورة ، والمكافأة له بالإحسان إليه حسنة ضرورة فإذا لم تحصل إساءة ولا مكافأة من المنعم عليه فهو إذا لا شاكر ولا كافر ، هذا إذا كان