وإن أردتم أنها ليست علوما حقيقية وأنهم ليسوا على ثقة منها فهو باطل لأنا نقطع بقبح الظلم والكذب والعبث والسّفه والجهل ، وبوجوب القضاء والرّد وشكر النعمة وحسن التفضل والإحسان والجود ، كما نقطع بسائر العلوم البديهية كالعلم بأن العشرة أكثر من الخمسة ، ونعلم أن من خالفنا في هذه القضايا أنه يفرق بضرورة عقله بين من أحسن إليه وبين من أساء وبين الظلم والجور والإهانة والعدل ، ومن أنكر ذلك فهو مكابر منكر للضرورة يلحق بالسوفسطائيّة.
«قالوا» أي الأشعرية ومن وافقهم «لو سلّم على التّنزّل» أي : لو سلّمنا أن العقل يدرك حسن الشيء أو قبحه باعتبار تعلق المدح والثواب والذم والعقاب آجلين على سبيل التّنزّل أي على جهة الجدل لا تسليم رجوع إلى قولكم «لم يسلّم» (١) ذلك «في مسألتين : «الأولى : وجوب شكر المنعم» : وهو الله سبحانه المتفضل بجلائل النّعم ظاهرها وباطنها.
قالوا : لأنه لو وجب عقلا لوجب لفائدة وإلّا كان عبثا وهو قبيح على قاعدتكم ولا فائدة لله تعالى لتعاليه عنها ، ولا للعبد في الدنيا لأنه مشقّة ولا حظّ للنفس فيه ولا في الآخرة إذ لا مجال للعقل في ذلك ، ولأنه معارض باحتمال العقاب على الشكر لأنه تصرف في ملك الغير أو لأنه كالاستهزاء «لأنّ النعم عند الله حقيرة لسعة ملكه فيكون» الشكر الذي أوجبتموه بالعقل «كمن تصدّق عليه الملك بلقمة» أي كشكر من تصدّق عليه الملك من بني آدم الذي قد ملك الأقطار الواسعة والممالك العظيمة بلقمة واحدة ،
«فإذا تحدث» المنعم عليه باللقمة «بالشكر لأجلها» أي لأجل اللقمة «عدّ ساخرا لا شاكرا» للملك على تلك اللقمة.
«المسألة الثانية حكم الأشياء» التي خلقها الله تعالى باعتبار انتفاعنا بها «قبل ورود الشرع» أي قبل بعثة الرسل صلوات الله عليهم بالشرائع «فلا يدرك العقل فيها جهة حسن ولا قبح» قالوا «إذ هو تصرف في ملك الغير بغير إذنه» فيجوّز مطابقة مراده ويجوّز عدمها ، ونسب ابن الحاجب في المنتهى هذه
__________________
(١) (ض) نسلم.