والمقابلة ، بعد البعثة ، بما تقدم ، لا قبلها ، فعندئذٍ كان في وسع العرب القاء كلم وجمل وخطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله ، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم والعلوم والقدرة ، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مؤنة . إلّا أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار ، وهو كما ترى .
وثالثاً : فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن ويضاهيه ، فلماذا اندهش الوليد بن المغيرة عندما سمع آيات من سورة فصلت وقال : « لقد سمعت من محمد كلاماً لا يشبه كلام الإنس والجن » (١) . ولماذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشاً مبهوتاً ملقياً يديه وراء ظهره متكياً عليهما ، مشدقاً بفيه مصعوقاً عندما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق . فلو كانت فصاحة القرآن وبلاغته أو نظمه وأُسلوبه من حيث العذوبة والأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب وبلغائهم ، فلم اهتزوا وتأثّروا بسماع آية أو آيات منه ، ولم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرىء القيس ، ولا عنترة ، ولا غيرهما من أصحاب المعلقات ، ولا من سماع خطب قس بن ساعدة وسحبان بن وائل وغيرهما من أصحاب الخطب والكلام .
وإلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن حمزة العلوي في نقد هذا المذهب ، ويقول : « لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته وحسن فصاحته ، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال : « إنّ أعلاه لمورق ، وإنّ أسفله لَمُعْذِق ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ عليه لحلاوة » ، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه ، وما ذاك إلّا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن موانع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان كما زعموه من الصرفة ، لكان العُجب من غير ذلك ، ولهذا فإنّ نبيّاً لو قال : إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي . وأنتم لا تقدرون على ذلك ، لم يكن
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤ .