تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه ، بل كان من أجل تعذّره عليهم ، مع أنّه كان مألوفاً لهم ، ومقدوراً عليه من جهتهم . فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه . فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دلّ على فساد هذه المقالة » (١) .
وما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة ، وإنّما يقول هذه المزية ليست مما تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز ، فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة (٢) ، غير تام ، إذ لو كان مثل القرآن متوفراً في الأوساط الأدبية قبل البعثة ، لما كان لهذا الطرب والإهتزاز والإنبهار والتضعضع ، وجه وجيه ، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله ، وسمعت آذانهم كثيراً من هذا النمط من الكلام وإن قصرت من بعد . ولو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن ، فلماذا جمع الوليد صناديد قريش وقال لهم : « إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء واحد ، ما تقولون في هذا الرجل ؟ الخ (٣) » . فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هِمَمِهِم ، أو سلب علومهم ، أو الجائهم على الإنقباض في مقام معارضته ـ لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحاً ، وهو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا ، وأكثر مثله في كلام خطباء العرب وشعرائهم .
ورابعاً : فإنّ القول بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات ، وبليغ العبارات ، عن العرب ، فزعم هؤلاء أنّ كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية ، يقدر على المعارضة ، إلّا أنّه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها .
ولكن أين الثرى من الثريا ، وأين المدر من الدُرَر ، وليس إعجاز القرآن
__________________
(١) الطراز ، ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ .
(٢) تمهيد الأُصول ، ص ٣٣٨ .
(٣) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٦ .