نقول : كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل ، وذلك إنما يصار إليه عند الضرورة ، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلّا الاعتماد على العمومات ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عوّلتم عليه من العمومات.
ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعا ، فكان قولنا أولى ، وأيضا فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف ، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حيث لولا الصّرف لدخل ، والشيء لا يدخل في غير جنسه ، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه.
وأما قوله : إنه جني واحد من الملائكة فنقول : إنما يجوز إجراؤكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه ، أما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلّا عن ذلك الواحد لم يجز إجراؤكم غيره عليه.
الثاني : قالوا : لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) متناولا ، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباء واستكبارا ومعصية ، ولما استحقّ الذم والعقاب ، ولما حصلت هذه الأمور ، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلّا إذا كان من الملائكة. لا يقال : إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم ، وطالت خلطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] لأنا نقول : أما الأول فجوابه : أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه : خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين ، وأيضا فشدّة المخالطة بين الملائكة ، وبين «إبليس» لما لم يمنع اقتصار اللّعن على إبليس ، فكيف يمنع اقتصار ذلك التّكليف على الملائكة ، ولنا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن ، فإن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالغلبة ، فلما ذكر قوله: (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) عقيب قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر ، لا بسبب مخالطة أمر آخر ، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن «إبليس» كان من الملائكة ، فلما عصى الله غضب عليه ، فصار شيطانا.
وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نار ، ولا في تركيب الشّهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس : «أنّ إبليس كان من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم : الحنّ خلقوا من نار السّموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسّريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، وكان من خزّان الجنّة ، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا ، وكان له سلطانها ، وسلطان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا ، وأكثرهم علما ، وكان يسوس ما بين السّماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر ، فعصى الله ، فمسخه شيطانا رجيما».