والشّبهة الثانية :
أنّ الهدف من التّواطؤ إخراج قوم فرعون من المدينة وإبطال ملكهم والاستيلاء على مصر. ولا شكّ أن مفارقة الوطن والنّعمة المألوفة من أصعب الأمور ، فجمع فرعون بين الشّبهتين ، لتغطية آثار الهزيمة ، وإبقاء التّماسك حوله.
ثم أتبع فرعون التّدليس والتّمويه بالتّهديد والوعيد للسّحرة ، وبالتّنكيل الشّديد بهم ، وتقطيع أطرافهم ، وصلبهم ، قال ابن العربي : هذا يدلّ على أنّ الصّلب وقطع اليد والرّجل من خلاف كان عقوبة متأصّلة عند الخلق ، تلقّفوها من شرع متقدّم ، فحرّفوها حتى أوضحها الله في ملّة الإسلام ، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الاجرام أي عقوبة المحاربين(١).
ولكن غباء فرعون وجماعته وكلّ الكفار جعلهم لا يدركون ما الذي يفعله الإيمان الحقّ من الأعاجيب ، فلم يبالوا بالموت ، وطلبوا الثّبات على الإسلام ، والعون على إفراغ الصّبر عليهم عند القطع والصّلب.
وإذا كان الإيمان بالدّين الحقّ والصّبر على الشّدائد من خلق الله تعالى ، كما يقول أهل السّنة ، فإنّ اتّجاه إرادة الإنسان للأخذ بهما ، والاستعانة بالله للثّبات على الإسلام ، دليل على استحقاق العبد الثّواب على ما اتّجهت إليه إرادته ، إذ لو كان الإيمان مجرّد منحة من الله ، لما كان هناك داع لإثابة المؤمن ، وتعذيب الكافر.
وموقف السّحرة وإعلان إيمانهم بجرأة وصراحة يدلّ على أنّ الإنسان إذا تجرّد عن هواه ، وأذعن للعقل والفكر السّليم ، بادر إلى الإيمان عند ظهور الأدلّة عليه.
__________________
(١) أحكام القرآن : ٢ / ٧٧٩.