انْتِقامٍ) قصد من هذا الاعتراض أن ضلالهم داء عياء لأنه ضلال مكوّن في نفوسهم وجبلّتهم قد ثبّتته الأيام ، ورسخه تعاقب الأجيال ، فران بغشاوته على ألبابهم ، فلما صار ضلالهم كالمجبول المطبوع أسند إيجاده إلى الله كناية عن تعسر أو تعذر اقتلاعه من نفوسهم.
وأريد من نفي الهادي من قوله : (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) نفي حصول الاهتداء ، فكني عن عدم حصول الهدى بانتفاء الهادي لأن عدم الاهتداء يجعل هاديهم كالمنفي. وقد تقدم قوله في سورة الأعراف [١٨٦] (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ).
والآيتان متساويتان في إفادة نفي جنس الهادي ، إلا أن إفادة ذلك هنا بزيادة (مِنْ) تنصيصا على نفي الجنس. وفي آية الأعراف ببناء هادي على الفتح بعد (لا) النافية للجنس فإن بناء اسمها على الفتح مشعر بأن المراد نفي الجنس نصّا. والاختلاف بين الأسلوبين تفنن في الكلام وهو من مقاصد البلغاء.
وتقديم (لَهُ) على (هادٍ) للاهتمام بضميرهم في مقام نفي الهادي لهم لأن ضلالهم المحكي هنا بالغ في الشناعة إذا بلغ بهم حدّ الطمع في تخويف النبي بأصنامهم في حال ظهور عدم اعتداده بأصنامهم لكل متأمل من حال دعوته ، وإذ بلغ بهم اعتقاد مقدرة أصنامهم مع الغفلة عن قدرة الرب الحقّ ، بخلاف آية الأعراف فإن فيها ذكر إعراضهم عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وهو ضلال دون ضلال التخويف من بأس أصنامهم.
وأما جملة (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين : فريقا متمسكا بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون ، وآخر مستمسكا بالأصنام العاجزة عن الأمرين ، فلما بيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم.
(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ).
تعليل لإنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام ، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة ، ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود. فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كاف عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء ، وبانتقامه من الذين يبتغون لعبده الأذى.