عامّتهم فقالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥]. فكانوا يسخرون من النبي صلىاللهعليهوسلم لأجل ذلك (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، ولما كانوا مقرّين بأن الله هو خالق السماوات والأرض أقيمت عليهم الحجة على إثبات البعث بأنّ بعث الأموات لا يبلغ أمره مقدار أمر خلق السماوات والأرض بالنسبة إلى قدرة الله تعالى. والكلام مؤذن بقسم مقدّر لأن اللام لام جواب القسم ، والمقصود : تأكيد الخبر.
ومعنى (أَكْبَرُ) أنه أعظم وأهم وأكثر متعلّقات قدرة بالقادر عليه لا يعجز عن خلق ناس يبعثهم للحساب.
فالمراد بالناس في قوله : (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الذين يعيد الله خلقتهم كما بدأهم أول مرة ويودع فيهم أرواحهم كما أودعها فيهم أول مرة. والخبر مستعمل في غير معناه لأن كون خلقها أكبر هو أمر معلوم وإنما أريد التذكير والتنبيه عليه لعدم جريهم على موجب علمهم به.
وموقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما اقتضاه التوكيد بالقسم من اتضاح أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. فالمعنى : أن حجة إمكان البعث واضحة ولكن الذين ينكرونها لا يعلمون ، أي لا يعلمون الدليل لأنهم متلاهون عن النظر في الأدلة مقتنعون ببادئ الخواطر التي تبدو لهم فيتخذونها عقيدة دون بحث عن معارضها ، فلما جروا على حالة انتقاء العلم نزلوا منزلة من لا علم لهم فلذلك نزل فعل (يَعْلَمُونَ) منزلة اللازم ولم يذكر له مفعول.
فالمراد ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) هم الذين يجادلون في آيات البعث وهم المشركون ، وأما الذين علموا ذلك فهم المؤمنون وهم أقل منهم عددا. وإظهار لفظ (النَّاسِ) في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مع أن مقتضى الظاهر الإضمار ، لتكون الجملة مستقلة بالدلالة فتصلح لأن تسير مسير الأمثال ، فالمعنى أنهم أنكروا البعث لاستبعادهم خلق الأجسام مع أن في خلق السماوات والأرض ما لا يبقى معه استبعاد مثل ذلك.
(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨))