و (الْكِتابُ) تعريفه تعريف الجنس ، أي وضعت الكتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها من صالح وسيّئ. والوضع : الحطّ ، والمراد به هنا الإحضار.
ومجيء النبيئين للشهادة على أممهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١].
والشهداء : جمع شهيد وهو الشاهد ، قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) في سورة ق [٢١]. والمراد الشهداء من الملائكة الحفظة الموكلين بإحصاء أعمال العباد. وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] أي قضي بين الناس بالحق.
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلّغه الرسل إليهم لئلا يزعموا أنهم لم تبلغهم الأحكام. وقد صوّرت الآية صورة المحكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل ، وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة ، ولذلك قال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحق ، فمن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتد ومعتدى عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النحل : ١٢٤].
ومن القضاء القضاء على كل نفس بما هي به حقيقة من مرتبة الثواب أو العقاب وهو قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ). فقضاء الله هو القضاء العام الذي لا يقتصر على
إنصاف المتداعين كقضاء القاضي ، ولا على سلوك الداعرين كقضاء والي الشرطة ، ولا على مراقبة المغيّرين كقضاء والي الحسبة ، ولكنه قضاء على كل نفس فيما اعتدت وفيما سلكت وفيما بدلت ، ويزيد على ذلك بأنه قضاء على كل نفس بما اختلت به من عمل وبما أضمرته من ضمائر إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. وإلى ذلك تشير المراتب الثلاث في الآية : مرتبة (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، ومرتبة (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ، ومرتبة (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).
والتوفية : إعطاء الشيء وافيا لا نقص فيه عن الحق في إعطائه ولا عن عطاء أمثاله. وفي قوله : (ما عَمِلَتْ) مضاف محذوف ، أي جزاء ما عملت لظهور أن ما عمله المرء لا يوفاه بعد أن عمله وإنما يوفى جزاءه.