أحد من خلق الله سبحانه وتعالى إلا على حسب الدّفع عن نفسه ، وأن يعذر الناس في مباحثهم وإدراكاتهم ، فإن ذلك على حسب عقولهم ، وأن يضبط نفسه عن المراء والاستزراء والاستخفاف بأبناء زمانه ، وأن لا يبحث إلا مع من اجتمعت فيه شرائط الديانة والفهم والمزاولة لما يبحث ، وأن لا يغضب على من لا يفهم مراده ومن لم يدر ما يدركه ، وأن يلتمس مخرجا لمن ظاهر كلامه الفساد ، وأن لا يقدم على تخطئة أحد ببادي الرأي ، وأن يترك الخوض في علوم الأوائل ، وأن يجعل اشتغاله بعلوم الشريعة ، وأن لا ينكر على الفقراء ، وليسلم لهم أحوالهم ، وينبغي للعاقل أن يلزم نفسه التواضع لعبيد الله سبحانه وتعالى ، وأن يجعل نصب عينيه أن عاجز مفتقر ، وأن لا يتكبر على أحد ، وأن يقلّ من الضحك والمزاح والخوض فيما لا يعنيه ، وأن يتظاهر لكل بما يوافقه فيما لا معصية لله تعالى فيه ولا خرم مروءة (١) ، وأن يأخذ نفسه باجتناب ما هو قبيح عند الجمهور ، وأن لا يظهر الشكوى لأحد من خلق الله تعالى ، وأن لا يعرض بذكر أهله ، ولا يجري ذكر حرمه بحضرة جليسه ، وأن لا يطلع أحدا على عمل خير يعمله لوجه الله تعالى ، وأن يأخذ نفسه بحسن المعاملة من حسن اللفظ وجميل التغاضي (٢) ، وأن لا يركن إلى أحد إلا إلى الله تعالى ، وأن يكثر من مطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلا جديدا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، انتهت وصية أبي حيان الجامعة النافعة ، وقد نقلتها من خط الشيخ العلامة أبي الطيب بن علوان التونسي المالكي الشهير المصري ، وهو ممن أخذ عن تلامذة الشيخ أبي حيان ، رحمه الله تعالى.
قلت : وبما في هذه الوصية من نهيه عن الطعن في صالحي الأمة نفع الله تعالى بهم وأمره بالتسليم لأحوالهم وعدم الإنكار عليهم ؛ تعلم أن ما نقله الصفدي عنه فيما تقدم من قوله : «إن الشيخ أبا مدين إلى آخره» كلام فيه نظر ، لأن أبا حيان رضي الله تعالى عنه لا ينكر كرامات الأولياء ، كيف وقد ذكر رحمه الله تعالى منها كثيرا ، فمن ذلك ما حكى عنه تلميذه الرعيني بسنده إلى الفقيه المقري الصالح أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيد بونة (٣) الخزاعي ، حدث أنه زار قبر أبي الحسن بن جالوت ، ولم يكن زاره قبل ، فاشتبه عليه فتركه ، فسمع النداء من قبر معين : يا غالب أتمشي وما زرتني؟ فزار ذلك القبر ، وقعد عنده ، ثم جاء ابن أبي الحسن المذكور ، فسأله عن القبر ، فقال : هو الذي قعدت عنده ، وغالب هذا وابن
__________________
(١) حزم : ثقب ، شق ، قطع. وخرم المروءة : انتقاصها وكسرها.
(٢) في ب : «جميل القاضي».
(٣) في ب : «بونه الخزاعي».