لأن كل مخلوق فهو معلوم لدى خالقه. وبتعبير محيي الدين بن العربي : ان ما من موجود في العالم الا وله وجه خاص الى موجده .. ثم اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في ان الله يعلم الجزئيات كأفراد الحيوان والنبات والجماد علما مباشرا ومن غير توسط ، أو يعلمها بتوسط أسبابها وما تتولد منه؟. قال المتكلمون بالأول ، وذهب الفلاسفة الى الثاني.
ونحن لا نرى أية جدوى في هذا الخلاف ، لأن على المسلم أن يؤمن بأن علم الله شامل لكل شيء كليا كان أو جزئيا ، حتى خفقة القلب واللمحة في الذهن ، أما الايمان بأن علمه تعالى على هذا النحو دون ذاك فليس من الدين في شيء .. وهناك أحاديث تنهى عن التفكر في ذات الله ، وتأمر بالتفكر في خلقه وصنعه.
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) فلا يخلقه عبثا ومن غير أصول ، بل لكل شيء حده ونظامه في الكم من حيث أجزاؤه ومقوماته وخواصه وآثاره ، وفي الكيف من حيث شكله وصورته ومكانه وزمانه ، وأسبابه وسننه ـ كل ذلك على ما تستدعيه الحكمة والمصلحة .. وكل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرى ويراقب ، ويعادل ويقيس ، وقد يخطئ أو يصيب ، لأن علم الإنسان مكتسب يفتقر الى سبب ، وكثيرا ما يظن ان هذا الشيء سبب للعلم بكذا ، وهو في واقعه جهل محض ، أما علمه تعالى فهو ذاتي وعين الواقع.
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ). ليس المراد بالكبر الضخامة ، وبالعلو المكان المحسوس ، بل هما كناية عن عظمة الله في ذاته وصفاته ، وعالم الغيب ما غاب عنا علمه ، وعالم الشهادة ما نراه ونشاهده .. ان الكون مليء بالمخلوقات من شتى الأجناس والأصناف العلوية والسفلية ، فمن الجراثيم الى الإنسان والملائكة ، ومن المعادن الى النبات والحيوان ، الى الماء والهواء ، وما فيهما ، الى ما لا نهاية ، وقد يعلم الإنسان طرفا من أشياء الكون ، ولكن علمه مهما بلغ لا يعد شيئا الى جانب ما غاب عنه ، فأكثر الحقائق وضوحا تبطن الكثير من الأسرار ، ولا يعلم كلّ ما في الكون الا خالق الكون ، فهو وحده الذي يتساوى لديه السر والعلن ، والغائب والشاهد وما أوتيتم من العلم الا قليلا.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ