فيهم واحد مجنون سأل ما أجل مجلس أمير المؤمنين عن التفوه به فيه ، فقال : قل ولا تجزع ، فقال : قال : كذا وكذا ، قال : قل له : بعد ثلاث أحضر لينجز لك ما سألت ، وأنت تتولى الاستئذان له ، ودعا بخادم ، وقال : امض إلى فلانة ، وقل لها : حضر رجل ، وذكر كذا وكذا ، وأجبناه إلى ما سأل ، فكوني على أهبة ، ثم أدى الفضل الرسالة إليه ، فانصرف وحضر في اليوم الثالث ، وعرف الرشيد خبره ، فقال : يلقى له بحيث أرى كرسي فضة ، وللجارية كرسي ذهب ، وتخرج إليه ، ويحضر ثلاثة أرطال ، فجلس الفتى والجارية بإزائه ، فحدثها ، والرشيد يراهما ، فقال للخادم : لم تدخل لتشتو وتصيف ، فأخذ رطلا ، وخرّ ساجدا وقال : إذا شئت أن تغني فغني (١) :
خليلي عوجا بارك الله فيكما (٢) |
|
وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا |
وقولا لها ليس الضلال أجازنا |
|
ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا |
غدا يكثر الباكون منا ومنكم |
|
وتزداد داري من دياركم بعدا |
فغنته ، وشرب الرطل ، وحادثها ساعة ، فاستحثه الخادم ، فأخذ الرطل بيده ، وقال : غني جعلت فداك :
تكلّم منا في الوجوه عيوننا |
|
فنحن سكوت والهوى يتكلم |
ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا |
|
وذلك فيما بيننا ليس يعلم |
فغنته ، وشرب الرطل الثاني ، وحادثته ساعة ، فاستعجله الخادم ، فخرّ ساجدا يبكي ، وأخذ الرطل بيده ، واستودعها الله ، وقام على رجليه ، ودموعه تستبق استباق المطر ، وقال : إذا شئت غني :
أحسن ما كنا تفرقنا |
|
وخاننا الدهر وما خنّا |
فليت ذا الدهر لنا مرة |
|
عاد لنا يوما كما كنّا |
فغنته الصوت ، فقلب الفتى طرفه ، فبصر بدرجة في الصحن ، فأمها ، وتبعه الخدم ، ليهدوه الطريق ، ففاتهم ، وصعد الدرجة وألقى نفسه إلى الأرض على رأسه ، فخرّ ميتا ، فقال الرشيد : عجّل الفتى ، ولو لم يعجل لوهبتها له.
__________________
(١) الأبيات الثلاثة في البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٩ والأغاني ٢٢ / ٢٤٣ وقد نسبها لعبد الله بن العجلان النهدي الأول والثاني من أربعة أبيات.
(٢) صدره في الأغاني :
ومرّا عليها بارك الله فيكما