إلى الناموس الأعظم الذي يزكي النفوس ويشعرها جلال حياة الروح ، فكانت هذه الشريعة الجديدة بتعاليمها الأدبية شريعة روحية تكاد تتمحض لها حال ذلك الإفراط المادي ، والتفريط بكل ما يصعد بالنفس إلى الرفيق الأعلى ويعرج بها إلى ملكوتها الأسمى ويخلصها من ظلمة الظلم وظلمة الوهم وكثافة المادة وقد سئمت ذلك كله.
فكان من تعاليم هذه الشريعة ما يزهد بشهوات الأنفس ويبعثها على الميل إلى الزهد والنسك والبعد عن كل ما يقطع صلتها بعالمها ، فصبت نفوس من شغفوا بتلك التعاليم إلى حياة العزلة والعزوف عن كل ما يصرفها عن الإتصال بواجب الوجود ، فبعد أن كانت ترتاض بهذه الحياة الصوفية في الأوساط العالمية معتزلة عن الناس في معابدها مالت إلى العزلة عنها لتتمخض إلى الاعتزال عن كل وسط عالمي ، فانتقلت منها إلى الصحارى ورؤس الجبال ، وسرعان أن فشت الحياة الرهبانية وشيدت لها الأديار ، وهكذا إلى أن اتخذت الرهبنة نظاما خاصا وحياة خاصة.
وملأت الأديار الديار التي دانت بالنصرانية ، وكانت أسبقها إلى عمارتها بلاد الشام موطن المسيحية ، ومنها انتشرت بانتشارها في الاقطار التي دانت بها ومشت معها جنبا إلى جنب وانتقلت من الشرق إلى الغرب ، وعرفها العرب الذين دانوا بالنصرانية وأنشأ منها الكثير الغساسنة بالشام والمناذرة بالعراق حتى ألّف فيها علماء العرب كتب الديارات (١).
ولا غرو إذا كثرت الأديرة في جبل عامل ، وهو على قاب قوسين من مهد ظهور الديانة المسيحية ، وقد كان جزءا من القطر الثاني الذي انبسط فيه
__________________
(١) أحصى كوركيس عواد أحد عشر كتابا في الديارات (مقدمة الديارات ص ٣٦ ـ ٤٨) أشهرها كتاب الديارات للشابشتي الذي نشره كوركيس عواد في بغداد طبعة أولى ١٩٥١ وطبعة ثانية بغداد ١٩٦٦.