وأمراؤه فضعفت تنوخ عن مقاومته وانكشفت ، فسار معظمهم ومن فيه نهوض منهم إلى الضيزن بن معاوية التنوخي إلى الحضر (١) فأقاموا به ، وملكوا ما جاورهم من البلاد وأجلوا سائر الأمم عنها ، إلا من أدى إليهم الجزية ، فاشتدت شوكة تنوخ وعظم بأسهم ، فملّكوا عليهم الساطع وهو النعمان بن عدي ، وإنما سمي الساطع لجماله وبهائه ، وكان طويلا وسيما جسيما جوادا شجاعا ، فملك عليهم برهة ، وكانت له حروب ووقائع مع ملوك الفرس ، وشن الغارات على السواد ، فسميت تنوخ يومئذ الدواسر لما ظهر من شدتهم بأسهم.
وبعض الجهال يقول : إن معرة النعمان تنسب إليه ، وليس بصحيح بل تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري ، وكان واليا على حمص وقنسرين في ولاية معاوية وابنه يزيد ، ومات للنعمان بها ولد ، وجدد عمارتها فنسبت إليه ، وكانت تسمى أولا ذات القصور ، وقيل إن سياث كانت المدينة وهي آهلة ، (فخرج ابن للنعمان بشير يتصيد ، وكان موضع المعرة أجمة ، فافترسه السبع ، فجزع عليه) (٢) وبنى له موضعا عند قبره فبنى الناس لبنائه فنسبت معرة النعمان إليه لذلك ، وإنما نسبت الجهال المعرة إلى النعمان بن عدي المعروف بالساطع لأن أهلها كلهم أو بعضهم من بني الساطع ، فظنوا أنها منسوبة إليه. ولما هلك الساطع تفرقت كلمة تنوخ وتشتت أمرهم وتنازعوا الرياسة بعده.
ثم إن ملك الفرس غزا الروم فأذرع فيهم القتل وسبي الذراري وخرب العماير ، فأنفذ ملك الروم إلى تنوخ وكانت أقرب القبائل إليه في ذلك العصر فاستنجدهم على ملك الفرس ، فأنجدوه وقاتلوا معه قتالا شديدا ، ثم سألوا ملك الروم أن يتولوا حرب الفرس منفردين عن جند الروم لتظهر له طاعتهم وعناؤهم ، فأجابهم إلى ذلك فقاتلوا الفرس وظفروا بهم وقتلوهم قتلا ذريعا وأبلوا بلاء عظيما ، فأعجب بهم ملك الروم وفرق فيهم الدنانير والثياب وقربهم وأدناهم وأقطعهم سورية وما جاورها من البلاد إلى الجزيرة ، وهي مدينة بقرب الأحصّ على جانب البرية وإليها ينسب اللسان السورياني. هذا منتهى أمرهم في الجاهلية.
فلما جاء الإسلام قدموا مع أبي عبيدة بن الجراح رضياللهعنه ، وكانوا أشد من معه من العرب شوكة وأكثرهم عددا ، فانتخوا (٣) البلاد واختطوا الخطط ونزلوا قنسرين
__________________
(١) الحضر : بفتح الحاء وسكون الضاد : مدينة بإزاء تكريت.
(٢) ما بين قوسين زيادة أخل بها الأصل.
(٣) لعلها : فانتجعوا ، كما ضبطت في الطبعة المصرية.